المظهرية الجوفاء

بسم الله الرحمن الرحيم

المظهرية الجوفاء

 في (خ)  عن سهل بن سعد ، قال : مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لرجل عنده جالس: «مارأيك في هذا ؟»" فقال : رجل من أشراف الناس : هذا والله حري إن خطب أن ينكح ،وإن شفع أن يشفع ، وإن قال أن يسمع لقوله ، فسكت النبي  صلى الله عليه وسلم ، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما رأيك في هذا؟»" قال : هذا رجل من فقراء المسلمين ، هذا حري أن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» .

لقد عني الإسلام بظاهر المسلم وباطنه، ولئن كانت عنايته بالباطن أكثر، فهو الأساس والمقصود، فالإنسان في نظر الإسلام مظهر ومخبر، صورة وحقيقة ، واختلال مفهوم الظاهر والباطن ، يعد من جملة المفاهيم التي اختلت في واقعنا. فلقد بالغ الناس بالزينة والمظهر ، وأهملوا الباطن والمخبر . إن الناس يقاسون ويوزنون ببواطنهم لا بمظاهرهم ،بحقائقهم لا بصورهم، وفي (م) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله لا ينظر إلى صوركم  وأجسادكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ولقد اتخذ الناس مقياسا ليس بصواب ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً

وتأملوا قصة قارون ، وهي تقرر حقيقة القيم ، فتزهد في المال والزينة ، إلى جانب الإيمان والصلاح ، مع الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد .حين يخرج قارون بزينته على قومه ، فتطير لها قلوب فريق منهم ، وتهاوى لها نفوسهم ويتمنون مثل ما أوتي قارون ، ويرون أنه أوتي حظاً عظيماً يتمناه المحرومون . ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر ، وفي نفوسهم قيم أخرى. وهم أعلى نفسا، وأكبر قلباً ، ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد . ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ

ولا يغيبن عن البال أن الدجال يأتي الناس من طريق المظهريات ، والشكليات والماديات ، فيفتتن به بعض الناس ويتبعونه. فعن حذيفة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يخرج الدجال ومعه نهر ونار، فمن دخل نهره ، وجب وزره ، وحط أجره، ومن دخل ناره، وجب أجره، وحط وزره، ثم إنما هي قيام الساعة».

أيها المسلمون : كم من ظريف اللسان ، عظيم الشأن ، جميل المنظر ،هالك يوم القيامة ، لسوء عمله ، وكآبة منقلبه ، وقبح سيرته ، وسوء سريرته ، فالقلب هو محل نظر الحق ، فلا عبرة بحسن الظاهر ، وزخرف اللسان ، مع خبث الجنان ، ففي الصحيحين عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : «ألا أخبركم بأهل الجنة : كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار : كل عتل جواظ مستكبر» .

و فيهما أيضاَ عن أبي هريرة  عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : «تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم ، فقال الله للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : أنت عذابي ، أعذب بك من أشاء من عبادي» وقوله صلى الله عليه وسلم «التقوى هاهنا» يشير إلى صدره ثلاث مرات : فيه إشارة إلى أن كرم الخلق عند الله بالتقوى ، فرب من يحقره الناس لضعفه ، وقلة حظه من الدنيا ، وهو أعظم قدراً عند الله تعالى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ

وعدم التكلف في العناية بالمظاهر هو دأب الأنبياء ، وشأن الأولياء ، ومنهج الحكماء ، ففي تاريخ ابن عساكر أن عمر رضي الله عنه ، لما قدم الشام تلقته الجنود ، وعليه إزار وخفان وعمامة ، وهو آخذ برأس راحلته ، يخوض الماء ، وقد خلع خفيه ، فجعلهما تحت إبطه ، فقيل له يا أمير المؤمنين ، تلقاك الجنود وبطارقة الشام ، و أنت على هذه الحال ، قال إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نلتمس العز بغيره ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه إذا نظر إلى ذي سيما سأل : ألَهُ حرفه ؟ فإذا قيل لا سقط من عينه ، وقال بعضهم إلبس من الثياب ما يخدمك ولا يستخدمك ، وقال العتبي : أخزى الله من ترفعه هيئة ثيابه وماله ، لا أكبراه همته ونفسه ، وإنما الهيئة للأدنياء والنساء ، والتزين باللباس للرجال ، من المعايب والمذام ، إذ هو من صفة ربات الحجال. و كان سعد بن أبي وقاص في إبله ، فجاء ابنه فقال : نزلت ههنا وتركت الناس يتنازعون الملك ، فضرب سعد في صدره وقال : اسكت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله تعالى يحب العبد التقي الغني الخفي» رواه مسلم .

الخطبة الثانية

إننا نعيش مفارقات غريبة ، سببها تعظيم المظاهر والماديات . فقد تبدلت الموازين ، واختلفت الأفكار ، ووسد الأمر إلى غير أهله ، أصبحت الزينة هي الأمر المروم ، وغدت الزخرفة مبلغ الهموم ، وأضحت المظاهر طموح الطامحين ، ولو على حساب الدين .

ومما يثير الدهشة ، أن الإسلام حين يأمر بالاهتمام ببعض المظاهر ، تجد من يدعو إلى التفلت منها بحجة الاهتمام بالباطن ، وأن المظهرية لا فائدة ترجى من ورائها ، فإذا خاطبتهم عن اللحية قالوا: ليست العبرة بالشعر ، ولكنها بالشعور ، وإذا قلت لهم: «ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار» قالوا: هذه قشور ، وإذا قلت أصلح ظاهرك ، قالوا الإيمان في الصدور .

أيها المسلمون : تعددت أشكال اهتمام الناس بالمظاهر ، في هذا الزمان ، ففئة من الناس تراها في تشييد القصور، والتعالي في البنيان، ووفرة الخدم والحشم. تبهره زينة المراكب والمآكل ، والمساكن والملابس ، فلا يريد من السيارات إلى فاخرها ، ولا يلبس من الثياب إلا غاليها.

وفئة أخرى تتخيلها في الألقاب الرفيعة، أو في رتب الوظيفة ، وفئام من الناس، يرونها في أن يسلب الرجل مال أخيه، وينهب ثروات أقاربه و ذويه، ليشيد بما يصيب من السحت بيتاً، ويرفع بناءً ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً

ومن الناس من ابتلي بالمظاهر في الأمور الدينية ، كالعلم والدعوة ، والإرشاد والتوجيه ، قال صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله ، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا في الدنيا ، لم يجد رائحة الجنة يوم القيامة»

ومنهم من يريد في البيت هاتفاً ، وفي الجيب جوالاً ،و مع قلة القناعة ، وخوفٍ من ازدراء الناس  ، ومسايرةٍ للمجتمع ، وإرضاءٍ للزوجة ، وتظاهرٍ بالغنى أمام الأقارب ،  وانعدامِ ذاتِ اليد ، فيقترض من هذا ، ويستدين من ذاك ، مظاهر جوفاء ، تحمله الديون ، وتثقل كاهله بالأعباء . حتى هجروا بيوتهم من كثرة الدائنين ، وتواروا عن أنظار المطالبين ، غابوا عن المناسبات ، وتركوا الاجتماعات . حتى ألجأتهم الحال إلى سؤال الناس ، واستحلال الزكاة ، والوقوف بالمساجد ، وطرق أبواب التجار ، أرغمتهم المظاهر بأن يكونوا متسولين ، امتلأت السجون ، وضاعت كثير من الأسر ، فما أغنت عنهم المظاهر شيئاً .

المظهرية تراها تقطع الأرحام ، وتوقع بين الأقارب الخصام ، تراها في استقدام السائقين والخادمات ، وفي حفلات الأعراس، وحجتهم نريد أن نكون مثل الناس .

عباد الله : ينبغي ألا يكون المسلم كريشة في فلاة، تقلبها الريح ظهراً لبطن، إن استحسن الناس أمراً استحسنه ، وإن استقبحوه استقبحه . بل إنه يستقي الخلق من القرآن والسنة ، فالحسن عنده ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه . ولا بد أن نربي أنفسنا على القناعة ، وأن نعرف قدر الدنيا ﴿يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ