المحاسبة وآثارها

بسم الله الرحمن الرحيم

المحاسبة وآثارها

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ المؤمنُ قوّام على نفسه يحاسبُها ،  قيل للربيع: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا. ويقول مالك بن دينار: رحِم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا؟! ألستِ صاحبةَ كذا؟! ثم زمَّها، ثم خطمَها، ثم ألزمها كتابَ ربّها، فكان لها قائداً ، ويقول ابن القيم –رحمه الله- إحراز السلامة من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص .

أيها المسلمون : من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت عليه حسراته ، فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾ هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها ، تأخذها وهي راقدة في منامها ، تعاجلها وهي تمشي في طرقاتها ، تقبضها وهي مكبة على أعمالها ﴿فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَـئَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ عجباً للمفرطين ، يأمنون الدنيا وهي غرارة. ويثقون بها وهي مكارة. ويركنون إليها وهي غدارة. فارقهم ما يحبون ، ورأوا ما يكرهون. وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، ثم جاءهم ما يوعدون ، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون.

إنها الدنيا: تُبكي ضاحكاً، وتضحك باكياً. وتُخيف آمناً، وتؤمن خائفاً، تتقلب بأهلها، لا تُبقي أحداً على حال. العيش فيها مذموم، والسرور فيها لا يدوم، تُغيِّر صفاءها الآفات، وتنوبها الملمات، وتفجع فيها الرزايا، وتسوق أهلها المنايا. قد تنكرت معالمها، وانهارت عوالمها . الليالي والأيام ؛ تبلي الجديدَ ، وتقرِّب البعيدَ، أيامٌ تمرّ، وأعوام تكرّ، وأجيال تتعاقَب ، فهذا مقبِل وذاك مدبر، والكلّ إلى الله يسير «كلُّ الناس يغدو، فبائع نفسَه فمعتقُها أو موبقها» (م)

أيها المسلمون : لا يعرف حقيقة الدنيا بصفوها وكدرها، وزيادتها ونقصانها إلا المحاسب نفسه. فمن سرَّه أن تدوم عافيته فليتق الله ربَّه، فالبر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان. وإذا رأيت في عيشك تكديراً ،وفي شأنك تعسيراً، فتذكر نعمةً ما شُكرت،أو زلة قد ارتكبت . فمحاسبة النفس من أعظم مطلوبات الدين، ومن أظهر المعالم في طريق الصالحين. محاسبة تستوجب اليقظة لخلجات القلب وخفقاته، وحركاته ولفتاته، والحذر من كل هاجس، والاحتياط من المزالق والهواجس، والتعلق الدائم بالله ، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم: ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ

عباد الله : المحاسب نفسه يغدو ويروح، ويمسي ويصبح ، ناظراً في مكنونات قلبه، وبصر عينه، وسماع أذنه، وحركة يده، وسير قدمه، يعبد الله كأنه يراه، فيمتلئ قلبه محبةً ومعرفةً، وعظمةً ومهابةً ، وأُنساً وإجلالاً. ولا يزال حبه يقوى، وقربه يدنو حتى يمتلئ قلبه إيماناً وخشية، ورجاء وطاعة، وخضوعاً وذلة «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» كلما اقترب من ربه اقترب الله منه «من تقرب إليّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً»

أهل المحاسبة صائمون قائمون، خاشعون قانتون، شاكرون على النعماء، صابرون في البأساء، تجردوا من الأثرة والهوى. هم البريئة أيديهم، الطاهرة صدورهم، متحابون بجلال الله، أمناء إذا ائتمنوا، عادلون إذا حكموا، منجزون ما وعدوا، موفون إذا عاهدوا، جادون إذا عزموا، أوقفهم القرآن فوقفوا، واستبانت لهم السنة فالتزموا .

أما أهل الغفلة : فلا يتأثرون بمواعظ، ولا توقظهم النذر، ولا تستحثهم العبر. أين الحياةَ في قلوب عرفت الله ولم تؤد حقه ؟ قرأت كتاب الله ولم تعمل به ، زعمت حب رسول الله وتركت سنته. يريدون الجنة ولم يعملوا لها، ويخافون من النار ولم يتقوها.

أيها المسلمون : العبد الغافل الهوى إمامه، والشهوة قائده، والغفلة مركبه، لا يستجيب لناصح، يتَّبع كل شيطان مريد ، الدنيا تُسخطه وترضيه، والهوى يصمه ويعميه .

فانظر يا عبدالله في صحائف أيّامك ؛ ماذا ادَّخرتَ فيها لآخرتك ؟ واخلُ بنفسِك وحاسِبها ، فالرشيدُ مَن عاتبها ؛ يصحِّح مسيرتَها ، ويتدارك زلَّتَها، يتصفَّح في ليلِه ما صدَر من أفعالِ نهارِه، فإن كان محموداً أمضاه، واستبَقَ بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدرَكَه ، وانتهَى عن مثله وتركه .

الخطبة الثانية

أيها المسلمون: صفحات من الإجازة طواها دهر اليوم ، فصنف من الناس أمضوها في أجل القرب إلى الله، في طلب فنون العلم ؛ لإدراكهم أن العلم يفضي بصاحبه إلى السعادة، فقليله ينفع، وكثيره يُعلي ﴿يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ

وصنف أحدق ببصره، وأسلم قلبه لمرئيات ذوات أطباق، عاش معها خيالاً، وطلب فيها محالاً، أفنى عمره بالندم، وقواه بالحسرة، فهذا كما بدأت عنده الإجازة انتهت، لا لدنيا جمع، ولا لآخرة ارتفع.

وآخرون أفلت شمس عودتهم من سفر محرّم، من ديار تحمل في طياتها أخطاراً على العقيدة والأخلاق، فهؤلاء مغبونون خاسرون، ذلك أن منهم من لوث معتقده، ودنّس ولاءه وبراءه، وبعثر أمواله في المنكرات والمحرمات .

 ومنهم من أوغل في الظُلم، فاستصحب معه نساءه، ومن تحت يده من بنين وبنات ، ليذيقهم حظهم من الشقاء، وتستمرئ نفوسهم الاستخفاف بالمعاصي، من أفعال تسقط المروءة، وتقضي على الفضيلة، في ديار تلاطمت فيها أمواج الفتن، واشرأبت فيها مهاوي الرذيلة، النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التطلع إلى الفتن، والاستشراف إليها، وذا ينغمس بأهله وولده في بحرها ودركها، فضيّع الأمانة، وفرّط في الرعاية ، كل ذلك ليسايروا ركب الحضارة المشؤوم، ويسلكوا درب المدنية المزعوم، إنها فتن مغرقة، وآثام موبقة، كيف تسير الأسرة إلى غازيها طواعية، كيف تنقاد إلى جزارها راضية، كيف تقتدي بعدوها في سلوكها وأخلاقها،ومعايير فهمها وتفكيرها.

ومنهم من إذا عاد من هناك تراه ينزع جلباب الحياء ، لما اقترفته جوارحه من محرمات، فيهتك ستر الله عليه، ويُرغِّب السامع في تلك الآثام ويحسّنها له، ويمدحها عنده، فيتفاحش ذنبه . إن الافتخار بالمعصية أمارة على موت القلب وفساد الفطرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين»" متفق عليه.

عبدالله : حاسب نفسك، واحذر مزالق الهوى ، ونزغات الشيطان، وسوء الخاتمة، فقد أحصيت عليك اللفظة والنظرة، وعاتب نفسك على التقصير، واحمد الله أن فسح لك في الأجل، وبادر بتوبة نصوح، فإن الله يفرح بتوبة التائب.

يقول وهب بن منبّه: من جعل شهوته تحت قدميه فزع الشيطان من ظله. فاستلب الزمن، وغالب الهوى، وحاسب النفس، وامحُ القبيح، واستعد لملمات الممات، واستدرك هفوات الفوات، فالترحل من الدنيا قد دنا، والتّحوّل منها قد أزف، ومن أصلح ما بقي ، غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي ، أخذ بما مضى وبما بقي .