الكسل في شهر العمل

بسم الله الرحمن الرحيم

الكسل في شهر العمل

إن في كرِّ الأيام والليالي لعبرةً، والأيام تمر مرَّ السحاب، عشيةٌ تمضي، وتأتي بكرة، وحساب يأتي على مثقال الذرة.

عباد الله : إن شعور المسلم بالاستبشار والغبطة حينما يرى إقبال الناس على الله في رمضان، وما يقلّبه من بصره تجاه أوجه البر والإحسان ، لدى الكثيرين من أهل الإسلام، ليأخذ العجب بلبه كل مأخذ، ولربما غلب السرور مآقي المترقب، ثم يرتد إليه طرفه وهو حسير ، لما يرى من مظاهر التراجع والكسل والفتور. أيها الناس: إن المتأمل في أحوال الناس ،   ليرى نوعاً من التكاسل والفتور ، فالناس ينشطون في أيام رمضان الأولى ، لما يحسّون من التغيير ، وما يجدون من لذة العبادة ، ثم ما يلبث هذا الشعور أن يبدأ بالاضمحلال ، ويصبح الأمر نوعاً من الرتابة ، فتضعف الخطى إلى المساجد ، ويقل الإقبال على قراءة القران . خلافاً لما كانوا عليه في أول الشهر.

أيها المسلمون: من تعود الفتور والكسل، أو مال إلى الدعة والراحة، فقدْ فقدَ الراحة، وقد قيل: إن أردت ألا تتعب، فاتعب لئلا تتعب، ولا أدل على ذلك من وصية الباري جل وعلا لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ﴾ لأن الكسول لم يؤد حقا، ومن ضجر لم يصبر على الحق، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

لقد خلق الإنسان في كبد، والمرء كادح إلى ربه كدحا فملاقيه، وإن من أعظم ما يعين النفس المسلمة على دوام الطاعة ، معرفة الله جل وعلا بأسمائه وصفاته ، ومعرفة الأجر المترتب على هذه الطاعة ، وقراءة سير سلف الأمة ، فإن في ذلك شحذاً للهمم ، وتقوية للعزائم . قيل لابن مسعود رضي الله عنه: ما نستطيع قيام الليل!! قال: أقعدتكم ذنوبكم . وقال رجل لأحد الصالحين: لا أستطيع قيام الليل، فصف لي في ذلك دواءً، فقال: "لا تعصه بالنهار، وهو يقيمك بين يديه في الليل"

وإن مما يحُث الهمة ، ويبعث القوة ، أن تعلم أنك في أيام  فاضلة، وأوقات شريفة، في شهر مبارك، المغبون من فرط فيه، والخاسر من لم ينافس فيه، هو ميدان التسابق لقُوَّام الليل، وساحات التنافس للركّع السجود.

قال ابن القيّم: "لم يقدُرِ الله حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيّعه، وذكره فأهمله ، وكان هواه آثرَ عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهمّ عنده من طاعته؛ فلله الفضلة في قلبه وعمله، وسواه المقدّم في ذلك؛ لأنه المهم عنده، يستخف بنظر الله إليه ، واطِّلاعه عليه، وهو في قبضته ، وناصيتُه بيده، يستحي من الناس ، ولا يستحي من الله تعالى".

أيها المسلمون: صلاة الليل قربةٌ إلى الله، ومنهاةٌ عن الإثم، وتكفيرٌ للسيئات، ومطردةٌ للداء عن الجسد . يقول ابن عباس رضي الله عنهما: من أحب أن يهوِّن الله عليه طول الوقوف يوم القيامة ؛ فليره الله في ظلمة الليل ساجداً وقائماً، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه . ويقول وهب بن منبه رحمه الله: "قيام الليل يشرف به الوضيع، ويعزُّ به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون الجنة"

إنهم عباد الرحمن يبيتون لربهم سجداً وقياماً، انتزعوا نفوسهم من وثير الفرش، وهدوء المساكن، غالبوا هواتف النوم، وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعده، والخوف من وعيده ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ﴾ عبادٌ لله قانتون متقون ﴿قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِٱلأَسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ عبادٌ لله صالحون ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ ٱلْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ

لقد تعدَّدت مقاصدهم، واختلفت مطالبهم ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾ فهذا محبٌ يتنعّم بالمناجاة، وذلك محسنٌ يزداد في الدرجات،وآخر خائفٌ يتضرّع في الظلمات، ويبكي على الخطيئة والذنب، ورَاجٍ يلحّ في سؤاله، ويصرّ على مطلوبه، وعاصٍ مقصّر يطلب النجاة، ويعتذر عن التقصير وسوء العمل، كلهم يدعون ربهم، فأنعم عليهم مولاهم وأعطاهم ، واستخلصهم واصطفاهم، وقليل ما هم . اكتفوا من الليل بيسير النوم، مشتغلين بالصلاة والقرآن والذكر والصوم، تلكم هي همم القوم . فاجتهد يا عبدالله أن تصلي ما تيسر من الليل، اجتهد أن تصلي التراويح، واصبر على ذلك وداوم عليه، فبالصبر والمداومة والإخلاص ، تنال من ربك التثبيت والمعونة .

فاتقوا الله رحمكم الله، واغتنموا أوقاتكم، وأروا الله من أنفسكم خيراً، وتعرضوا لنفحات ربكم، «أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»

الخطبة الثانية

أيها المسلمون : وإن مما يعين على الصبر والمصابرة ، معرفة ما أعده الله لأوليائه ، يقول ابن القيم رحمه الله: لما علم الموفقون ما خلقوا له ، وما أريد بإيجادهم ، رفعوا رؤوسهم، فإذا علم الجنة قد رفع ، فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم ، فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن ، بيع ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول ولا ينفد ، بصبابة عيش، إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بأنغاص ، ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن أسر يوماً أحزن شهوراً، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته، فيا عجباً من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها الأرض والسماوات ، بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكاراً عرباً أتراباً ، كأنهن الياقوت والمرجان ، بقذرات دنسات سيئات الأخلاق ، مسافحات أو متخذات أخدان، وأنهاراً من خمر لذة للشاربين ، بشراب نجس مذهب للعقل، مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم، بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم، وسماع الخطاب من الرحمان بسماع المعازف والغناء والألحان، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد ، بجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد، وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بايعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفداً ، وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً، ليعلم أيَّ بضاعة أضاع، وأنه لا خير له في حياته ، وهو مغرور من سقط المتاع، وعلم أن القوم قد توسطوا ملكاً كبيراً لا تعتريه الآفات ،و لا يلحقه الزوال، وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال، فهم في روضات الجنات يتقلبون، وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون، وعلى الفرش التي بطائنها من إستبرق يتكئون، وبالحور العين يتنعمون، وبأنواع الثمار يتفكهون ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَـٰفٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوٰبٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلاْنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلاْعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ

وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم مراراً ، ذكراً يباشر به القلوب، ويقارع الأطماع، فإن في كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر، وأمان بإذن الله من الهلع . الله أكبر، ما طاب لهم المنام لأنهم تذكروا وحشة القبور، وهول المُطَّلع يوم النشور، يوم يُبعَث من في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور. أفقُدَّت قلوبنا من حَجَر؟! أمْ خُلقت من صخر ؟! فأين القلب الذي يخشع ، والعين التي تدمع ، والأذن التي تسمع؟ فلله كم صار بعضها للغفلة مرتعاً، وللهو خراباً بلقعاً، وحينئذ لا الشاب منا ينتهي عن الصبوَة، ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوَة، بل قد فرطنا في كتاب ربنا في الخلوة والجلوَة ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا