ويجعل الله فيه خيراً كثيراً

بسم الله الرحمن الرحيم

ويجعل الله فيه خيراً كثيراً

﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ

قال ابن القيم رحمه الله: وهو سبحانه كما هو العليم الحكيم في اختيار من يختار من خلقه ، وإضلاله من يضله منهم ، فهو العليم الحكيم بما في أمره وشرعه ، من العواقب الحميدة ، والغايات العظيمة  ، وبين سبحانه أن ما أمرهم به ، يعلم ما فيه من المصلحة والمنفعة لهم ، التي اقتضت أنه يختاره ويأمرهم به ، وهم قد يكرهونه ، إما لعدم العلم ، وإما لنفور الطبع . فهذه الآية تضمنت الحض على التزام أمر الله وإن شق على النفوس ، وعلى الرضا بقضائه وإن كرهته الطباع .

فالعبد محتاج في فعل ما ينفعه في معاشه ومعاده ، إلى علم بما فيه من المصلحة ، وقدرة عليه ، وتيسير له ، وليس له من نفسه شيء من ذلك ، بل علمه ممن علم الإنسان ما لم يعلم ، وقدرته منه ، فإن لم يُقدِره عليه و إلا فهو عاجز . وتيسيره منه ، فإن لم ييسره عليه ، و إلا فهو متعسر .

قال عبدالله بن عمر : إن الرجل ليستخير الله فيختار له ، فيسخط على ربه ، فلا يلبثُ أن ينظرَ في العاقبة ، فإذا هو قد خار له .... فالمقدور يكتنفه أمران الاستخارةُ قبله ، والرضا بعده ، فمن توفيق الله لعبده ، وإسعاده إياه ، أن يختار قبل وقوعه ، ويرضى بعد وقوعه ، ومن خذلانه أن لا يستخيرَه قبل وقوعه ، ولا يرضى بعد وقوعه . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا أبالي أصبحت على ما أحب ، أو على ما أكره ، لأني لا أدري ، الخيرَ فيما أحبُّ أو فيما أكره .  وقال الحسن : لا تكرهوا النقمات الواقعة ، والبلايا الحادثة ، فلرُب أمرٍ تكرهه فيه نجاتُك ، ولرب أمر تؤثره فيه عَطَبُك .

وتأملوا قول الله جل وعلا : ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ بين سبحانه وتعالى حكمة ما كرهوه عام الحديبية ، من صد المشركين لهم عن البيت ، حتى رجعوا ولم يعتمروا ، وبين لهم أن مطلوبهم يحصل بعد هذا ،  فحصل في العام القابل ما حصل ، من مصالحِ الدين والدنيا ، والنصرِ وظهور الإسلام ، وبطلان الكفر ، ما لم يكونوا يرجونه قبل ذلك ، ودخل الناس بعضهم في بعض ، وتكلم المسلمون بكلمة الإسلام ، وبراهينِه وأدلتِه ، جهرة لا يخافون ، ودخل في ذلك الوقتِ في الإسلام خلق كثير ، وظهر لكل أحد بغيُ المشركين ، وعدوانُهم وعنادُهم ، وعلم الخاص والعام ، أن محمداً صلى الله عليه وسلم  وأصحابَه أولى بالحق والهدى ، وأن أعدائهم ليس بأيديهم إلا العدوان والعناد ، فإن البيت الحرام لم يُصدَّ عنه حاج ولا معتمر ، من زمن إبراهيم ، فتحققت العرب عنادَ قريش وعدوانَهم ، وكان ذلك داعيةً لبشرٍ كثيرٍ إلى الإسلام ، وزاد عنادُ القوم وطغيانُهم ، وزاد صبرُ المؤمنين ، والتزامُهم بحكم الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك من أعظم أسباب نصرهم ، إلى غير ذلك من الأمور التي علمها الله .

رب أمر تتقيـه *** جر أمـرا ترتضيه

خفي المحبوب منه *** وبدا المكروه فيه

قال أبو الدرداء : إن الله عز وجل إذا قضى قضاء أحب أن يُرضى به . وقال ابن مسعود : إن الله بقسطه وعدله ، جعل الرَّوح والفرح ، في اليقين والرضا ، وجعل الهمَّ والحزن ، في الشك والسُّخط ، فالراضي لا يتمنى غيرَ ما هو عليه من شدة ورخاء. وقال عمر بن عبدالعزيز : أصبحت ومالي سرور ، إلا في مواضع

القضاء والقدر ..... فعامةُ مصالح النفوس في مكروهاتها ، كما أن عامةَ مضارِها وأسبابَ هلكتِها في محبوباتها.

فأحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ، إذا أنزل بعباده ما يكرهون ، كان خيراً لهم من أن لا ينزلَه بهم ، نظراً منه لهم ، وإحساناً إليهم ، ولطفاً بهم ، ولو مُكنوا من الاختيار لأنفسهم ، لعجزوا عن القيام بمصالحهم ،  علماً وإرادةً وعملاً ، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم ، بموجب علمه وحكمته ورحمته ، أحبوا أم كرهوا ، فعَرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته ،  فلم يتهموه في شيء من أحكامه ، وخفي ذلك على الجهال به ، وبأسمائه وصفاته ، فنازعوه تدبيره ، وقدحوا في حكمته ، ولم ينقادوا لحكمه ، بل عارضوه بعقولهم الفاسدة ، وآرائهم الباطلة ، وسياساتهم الجائرة ، فلا لربهم عرفوا ، ولا لمصالحهم حصلوا.

الخطبة الثانية

عباد الله : إن في أقدار الله حكمٌ وأسرار ، ومصالحُ للعباد ، فانهم إذا علموا أن المكروهَ قد يأتي بالمحبوب ، والمحبوبَ قد يأتي بالمكروه ، لم يأمنوا أن توافيَهم المضرةُ من جانب المسرة ، ولم ييأسوا أن تأتيَهم المسرةُ من جانب المضرة ، لعدم علمهم بالعواقب ، فإن الله يعلم منها مالا يعلمون .

أيها المسلمون : إنه لا أنفعَ للعبد من امتثال الأمر ، وإن شق عليه في الابتداء ، لأن عواقبَه كلَّها خيراتٌ ومسرات ، وأفراحٌ ولذات ، وإن كرهته نفسه ، فهو خير لها وأنفع ، و لا شيء أضر عليه من ارتكاب النهى ، وإن هويته نفسه ومالت إليه ، فإن عواقبه آلام وأحزان ، وشرور ومصائب ، والعاقل الكيس ينظر إلى الغايات ، و هذا يحتاج إلى فضلٍ علم تدرك به النهايات ، وقوةِ صبرٍ يوطن به نفسه على تحمل المشقة ، فإذا فقد اليقين والصبر ، تعذر عليه ذلك ، وإذا قوي يقينه وصبره ، هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم .

أيها المسلمون : إن فيما نعيشه هذه الأيام ، من أحداث  متسارعة ، وهجمات من الأعداء شرسة ، لعبرةً للمعتبرين ، ورجعةً للمفرطين ، وتثبيتاً للموقنين ..... عسى أن يكون في ذلك فضحاً للأعداء ، ومعرفةً للأصدقاء . و إظهاراً لشعيرة الولاء و البراء ..... عسى أن يكون فيها إزاحةً للغشاوة ، عن أعين المخدوعين بالغرب وتعاليمه، وشعاراته وتقاليده .... عسى أن يكون فيها سقوطاً للمصطلحات الزائفة ، والمنظمات الجائرة ، فقد أعلنت هيئة الأمم إفلاسَها ، ومجالسُ الأمن تلفظ أنفاسَها ، أما حقوق الإنسان ، فقد عرف المراد بها ، ومن أحقُّ بها وأهلُها ، أما حرية الإعلام ، فقل عليها السلام ، ولا تنس الديمقراطية ، فإنها رأسُ كل بلية .... عسى أن يكون في هذه الأحداث إقناعاً للعالم ، بأن يحتكموا إلى غير قوانينهم ،  وأن يلتفتوا إلى الإسلام وتعاليمه  . أنأن

فقد جربوا القوانين فما أزالت نازلة  ، وحكموا بالأعراف فما حلت مشكلة ، وسلكوا طريق البطش فما عاشوا في هناء ، وحاربوا الإرهاب فما زادهم إلا بلاء .... أما آن لكم يا مسلمون أن ترحموا عباد الله ، آما حان الوقت لتدلوهم إلى سبيل الله ، هل ترون لهم مخرجاً غير شرع الله ، وهل تريدون لهم مُصلحاً غير حكم الله ﴿أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ

عباد الله : الشدائد تفتح الأسماع والأبصار ، وتشحذ الأفكار ، وتجلب الاعتبار ،  وتعلم التحمل والاصطبار ، تذيب الخطايا ، وتعظُم بها العطايا ، وهي للأجر مطايا ، فاطلب من الله الرعاية ، وأسأله العناية ، فلكل مصيبة غاية ، ولكل بلية نهاية ، كم من مرة خفنا ، فدعونا ربنا وهتفنا ، فأنقذنا وأسعفنا ، كم من مرة زارنا الهم ، وبرَّح بنا الغم ، ثم عاد سرورنا وتم ، كم من مرة وقعنا في الشباك ، وأوشكنا على الهلاك ، ثم كان الفكاك ، إذا داهمتك الشدائد السود ، وحلت بك القيود ، وأظلم أمامك الوجود ، فعليك بالسجود ، وناد يا معبود ، يا ذا الكرم والجود ، أنت الرحيم الودود .