العبادة في الهرج

بسم الله الرحمن الرحيم

العبادة في الهرج

في خضم ما نعيشه من أحداث ، وما يمر بنا من فواجع ، وما أصيبت به الأمة من ويلات، وما نراه من تسلط الأعداء . وما نلاحظه من تسارعِ الحوادث، وتغيرٍ في الأمور ، انتصاراتٌ تعقبها هزائم ، وأفراحٌ تتلوها أتراح ، وفتنٌ متنوعة ، أصبح الحليمُ فيها حيراناً ،،، يبقى الإنسان متلهفاً للخبر ، متابعاً للحدث ، باحثاً عن الحقيقة ، يقلب القنوات، ويتتبع الإذاعات ، ويلهث خلف الجرائد والمجلات .

ولكنه ينسى أمراً عظيماً ، وسياجاً واقياً ، ودرعاً حصيناً ، أرشد إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم  و باشره ،،، إذا ادلهمت الخطوب ، واشتدت الكروب ، وكثر القتل ، وعظمت الفتن ، فزِع إليه صلى الله عليه وسلم ففرج الله همه، ونفس كربه ، وهزم عدوه ، وأعلى كلمته ، أتدور ما هو ؟إنه العبادة ، على اختلاف أنواعها وأوقاتها ، وتفاوت أفضالها وأزمانها .

العبادة – عباد الله - حصن الله الأعظم ، من دخله كان من الآمنين ، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب ، فمن أطاع الله انقلبت المخاوفُ في حقه أماناً ، ومن عصاه انقلبت مآمنهُ مخاوف ، فلا تجد العاصي إلا وكأن قلبَه بين جناحي طائر ، إن حركت الريحُ البابَ قال  جاء الطلب ، وإن سمع وقع قدمٍ خاف أن يكونَ نذيراً بالعطب ، يحسب كلَّ صيحةٍ عليه ، وكلَّ مكروهٍ قاصداً إليه .

أيها المسلمون : ما أحوجنا اليوم للعبادة ، لكي نتمثل قولَه صلى الله عليه وسلم  كما في (م) من حديث معقلِ بن يسار رضي الله عنه «العبادةُ في الهرج كهجرةٍ إليّ» أتدرون ما الهرج ؟ قال صلى الله عليه وسلم : «يتقاربُ الزمان ، ويقبضُ العلم ،  وتظهرُ الفتن ، ويلقى الشح ، ويكثرُ الهرج» قالوا: ما الهرج يا رسول الله؟ قال: «الهرج القتل»

قال النووي رحمة الله : المراد بالهرج : الفتنةُ واختلاطُ أمورِ الناس، وسببُ كثرةِ فضلِ العبادة فيه ، أن الناسَ يغفُلون عنها ، ويشتغلون بغيرها ، ولا يتفرغ لها إلا الأفراد .

عباد الله : ولقد أرشد الله إلى أمرين عظيمين ، يستعان بهما في السراء والضراء ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ﴾ فأمر بالصلاة لمدافعة الفتن ، كما في حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً فزِعا يقول: «سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن؟ وماذا أنزل الله من الفتن؟ من يوقظ صواحبَ الحجرات ، يعني زوجاتِه ، لكي يصلين ، رب كاسية في الدنيا ، عارية في الآخرة».

أيها المسلمون : أرأيتم إذا غارت الآبار ، وقلت الأمطار ، وذبلت الأزهار ، فإلى أين تفزعون ؟ أليس إلى الصلاة .

أريتم إذا كسفت الشمس ، وخسف القمر ، وعظم الخطب ، وحل الخوف ، فإلى أين تفرون ؟ أليس إلى الصلاة . قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا انكسفت، فافزعوا إلى الصلاة».

وتأملوا قول علي رضي الله عنه : لقد رأيتُنا ليلة بدر ، وما فينا إلا نائم غيرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصلي ويدعو حتى أصبح . ويقول حذيفة: رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم  ليلة الأحزاب، وهو مشتمل في شملة يصلي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة  .

عباد الله : يزداد فضل الصلاة ويتأكد ، إبان حلول الفتن، ونزول الكوارث والمحن، لما في ذلك من جمع الشتات ، ولمٍّ الشعث، والبعد عن التفرق والنزاع،

فعن عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال : إنك إمامُ عامة ، ونزل بك ما نرى ، ويصلي لنا إمامُ فتنةٍ ونتحرج ، فقال : الصلاةُ أحسنُ ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم  .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : وفي هذا الأثرِ ، الحضُّ على شهود الجماعة ،  ولا سيما في زمن الفتنة ، لئلا يزداد تفرقُ الكلمة .

وصلاة الليل على وجه الخصوص ، لها أثارٌ عظيمة ، وفوائدُ جليلة ، على المتمسك بها ، فزمن الفتن ، يضطرب الناسُ ويموجون، فيحتاج المسلمَ إلى صلةٍ بالله قوية ، تؤنسُ نفسه، وتقوي روحه ، وتثبت قدمه ، وتشرح صدره ، وتهدئ من روعه، فلا يموج حين الفتن ، كما يموج الناس ، ولا ينزلق كما ينزلقون ، ولا يضطرب كما يضطربون . لأنه موقن بأن العاقبة للمتقين .

الخطبة الثانية

ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الصبر جواداً لا يكبو ، وصارما لا ينبو ، وجندا غالباً لا يهزم ، وحِصناً حصينا لا يهدم ، فهو والنصر أخوان شقيقان.

الصبر معين لا ينضب، و موردٌ عذبٌ لا يتكدر، متى تمكن في القلوب والضمائر ، وتحكم في الأحاسيس والمشاعر، أورث صاحبه قوة عارمة، وهمة عازمة، وثقة جازمة، تجعله يتحمل المشاق، ويواجه الأخطارَ لا يهاب ، يندفع إلى الشدائد غير ضعيف ولا مستكين، بل يستحلي المُرَّ ، ويستعذب الصعاب ، ويحرص على الموت حرص كثير من الناس على الحياة، مادام في سبيل الله .

إنه إذا استحكمت الأزمات، وتوالت النكبات ، وكثرت العوائق ، وترادفت الضوائق ، فإن الصبر هو الذي يشع النور العاصم من الردى ، ويدله على الهدى ، والصبر يعلم مواجهة التحديات مهما ثقلت ، وانتظار الثمار مهما بعدت ، بقوة إيمان ، وثبات جنان ، وصحة يقين ، حتى يخرج المسلم من المآزق ، وينجو من المضائق، ويسلم من المزالق ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.

وعن المقداد بن الأسود – رضي الله عنه – قال : وأيم الله لقد سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول : «إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً» أي ما أحسن وما أطيب من ابتلي بالفتن فصبر على البلاء .

وتأملوا قول أبي ذر : ركب رسول الله  صلى الله عليه وسلم حماراً و أردفني خلفه وقال : «يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد ، لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك ، كيف تصنع ؟» قال : الله ورسوله أعلم، قال : «تعفف ، يا أبا ذر : أرأيت إن أصاب الناس موت شديد ، يكون القبر فيه بالعبد ، كيف تصنع؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «اصبر» .  

وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم  بالصبر أيضاً عند جور الأمراء ، وضلال الحكام ، فعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : «من كره من أميره شيئاً فليصبر ، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية» (خ)

أريتم إذا التقى الصفان ، وتقابل الجمعان ، وحمي الوطيس ، فما المخرج ؟  وإلى أين المفر ؟ أليس إلى الثبات و ذكر الله ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ولقد حث القرآن على الصبر والتقوى لمواجهة الكيد، والسلامة من الفتن ﴿وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ ودفاع الله سبحانه عنا ، وحمايته لنا من الفتن والمكايد، إنما يكون على قدر إيماننا وعبوديتنا، قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ وكان السلف يقولون: على قدر العبودية تكون الكفاية .

عبدالله : المفر من الفتن إلى العبادة ، هذا هدي نبيك ، وسبيل سلفك . فماذا غيَّرتْ فيك هذه الأحداث ؟ هل أحدثْتَ بعد المعصية توبة ؟ وهل قررتَ بعد التفريط أوبه ؟ هل بكرتَ إلى الصلاة وقد كنت عنها متقاعس ؟ هل حافظت على السنن وقد كنت فيها مفرط ؟ هل قمت الليل وقد كنت عنه متثاقل ؟ هل أكثرت من الاستغفار ؟ وعلمت أن إلى الله الفِرار ، ورفعت يديك بالأسحار . هل ازداد تقواك ؟ هل عظم بالله رجاك ؟ لئن كنت كذلك فأبشر بتغيير الحال من الشدة إلى الرخاء ، ومن الخوف إلى الأمن ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.