الشكر على نزول القطر

بسم الله الرحمن الرحيم

الشكر على نزول القطر

الحمد لله الكريم الوهاب ، فارج الكربات ، ومغيث اللهفات ، الحمد لله الكبير المتعال ، الكريم المنان ، واسع الفضل والعطاء، مسدي النعماء وكاشف الضراء ، الحمد لله أبداً سرمداً ، ولا نشرك معه أحداً ، تبارك أحداً صمداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً. أحمده سبحانه أنشأ متراكم السحاب ، وأنزل الماء فسالت الأودية  والشعاب ، وأشكره على نعم تفوق العد والحساب ، له الحمد السرمد, حمداً لا يحصيه العدد ، ولا يقطعه الأبد ، كما ينبغي له أن يحمد . وأشهد .... أما بعد :

عباد الله : ذكر لقتادة أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ؛ قحط المطر ، وقنط الناس . فقال عمر مطرتم ثم قرأ ﴿وَهُوَ ٱلَّذِى يُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ٱلْوَلِىُّ ٱلْحَمِيدُ﴾ وقال صلى الله عليه وسلم  «ضحك ربنا من قنوط عباده ، وقرب غيره ، ينظر إليكم أزلين قنطين ، فيظل يضحك ، يعلم أن فرجكم قريب» (حم ، جه ) فما ضاق أمر إلا وجعل الله منه مخرجاً ، ولا عظم خطب إلا وجعل الله معه فرجاً ، فمن الله الخوف وفيه يكون الرجاء ، فمن يكشف الكرب إذا سجى ، ومن يرحم العبد إلا غسق الليل ودجى ، ألا إنما هو الله الذي إليه المآب والالتجاء .

عباد الله: إننا في هذه الأيام نتقلب في نعمة من نعم الله وافرة، فسماؤنا تمطر، وأشجارنا بإذن الله ستثمر، وأرضنا بحول الله ستخضرّ .

فوالله لولا الله ما سقينا، ولا تنعّمنا بما أوتين ﴿أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ

كيف لا نشكر الله ، وقد كنا بالأمس القريب نشكو الجدب وقلة المياه، فنزلت رحمة الله الواسعة، فرَويت الأرض، وجرت الوديان، وامتلأت الآبار، وسالت العيون، وفاضت السدود ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيٍْ قَدِيرٌ

 قال ابن عباس وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ: ليس عام بأكثر مطرا من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَـٰهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً﴾.

أيها المسلمون، إن رحمة الله بنا عظيمة، ونعمه علينا كثيرة، فالواجب علينا أن نشكر الله على هذه النعمة، وأن ننسب الفضل له، فما مطرنا إلا بفضله ورحمته.

جاء في البخاري ومسلم عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت بليل، فلما انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا أو كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب».

عبد الله : إن دعوت فإلى الله تمد يديك، إن ضاقت بك السبل وعظمت عليك البلايا فإليه ترفع حاجتك، وبه تنزل شكايتك، وإن استعنت فبالله وحده، إن توكلت فعليه، وإن فررت فإليه، إن أحببت فله، وإن أبغضت ففيه، حياتك له .

ربي لك الـحمـد العظـيم لذاتـكَ *** حمـداً وليـس لواحد إلاّكا

يا منبت الأزهار عاطـرة الشـذى *** ما خـاب يوما من دعا ورجاكا

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد.

واستمع إلى الحسن البصري رحمه الله ينذر ويحذر فيقول: إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء ، فإذا لم يُشكر عليها قلبها عذاباً، ولهذا كانوا يسمون الشكر الحافظ؛ لأنه يحفظ النعم الموجودة؛ والجالب لأنه يجلب النعم المفقودة . ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقلَّ نعمةٌ زالت عن قوم فعادت إليهم". والشاكرون لنعم الله قليل ﴿وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ

الشـكر يفتــح أبواباً مغلقة *** لله فيها على من رامه نعم

فبادر الشكر واستغلق وثائقه *** واستدفع الله ما تجري به النقم

الخطبة الثانية

الحمد لله ، اللهم ربنا لك الحمد ، بما خلقتنا ورزقتنا ، وهديتنا وعلمتنا ،  وأنقذتنا وفرجت عنا، لك الحمد بالإسلام والقرآن ، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كبتّ عدونا ، وبسطت رزقنا ، وأظهرت أمننا ، وجمعت فرقتنا ، وأحسنت معافاتنا، ومن كل ماسألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد على ذلك حمداً كثيراً ، ولك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا، في قديم أو حديث ، أو سر أو علانية،أو خاصة أو عامة، لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت.  

عباد الله : أخبر سبحانه أن الشكرَ هو الغاية من خلقه ﴿وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأبْصَـٰرَ وَٱلأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ وجعل سبحانه رضاه في شكره ﴿وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ والله خلق الليل والنهار للتفكر والشكر ﴿وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً﴾ وقد أثنى الله على نوح بالشكر فقال ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً﴾ وأثنى على خليله إبراهيم بشكر نعمه ﴿إِنَّ إِبْرٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـٰنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لأنْعُمِهِ﴾ وأمر به داود فقال ﴿ٱعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً﴾ ودعا سليمان عليه السلام ربَّه ﴿رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وٰلِدَىَّ﴾ وأمر موسى بالشكر ﴿يٰمُوسَىٰ إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي وَبِكَلَـٰمِي فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ﴾ وأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالشكر فقال﴿بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مّنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ﴾ وأمر لقمانَ بالشكر فقال ﴿وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ

وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فقد قال لمعاذ «إني أحبُّك، فلا تدعنّ أن تقول دبرَ كلّ صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك وشُكرك وحسن عبادتك»

والشكر أمنةٌ من العذاب، قال عز وجل ﴿مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ﴾ ونجَّى الله لوطاً عليه السلام من العذاب بالشكر ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَـٰصِباً إِلاَّ ءالَ لُوطٍ نَّجَّيْنَـٰهُم بِسَحَرٍ (34) نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَر﴾ ومن رُزق الشكرَ رُزق الزيادة ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ ٌ

الشكر أفضل ما حاولت ملتمساً *** به الزيادة عند الله والناس

وشُكر الله يكون بالقلب واللسان والجوارح. فيكون بالقلب بنسبة النعم إلى بارئها، قال جل وعلا ﴿وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ﴾ ويكون باللسان بالإكثار من الحمد لمُسديها، والشكرُ بالجوارح يكون بالاستعانة بها على مرضاة الله، ومنع استخدامها في مساخطه وعصيانه ، كما يحدث من بعض الناس هداهم الله ، حال خروجهم إلى النزهة في هذه الأيام ، من التفريط في الصلوات ، ومظاهر التبرج ، وموت الغيرة على الأعراض ، وتعريض النساء لنظر القاصي والداني ، والتساهل في إلزام المرأة الحشمة والحياء ، وسماع الغناء ، وغيرها من مظاهر كفر النعم .

أيها المسلمون : إن فضل الله لا يقف عند حد ، ونعمته لا تقع تحت عد ، نعم تترى ، وفضل يتوالى, والبشر عاجزون عن بلوغ حد الشكر ، حتى قال بعض العلماء: أصبح بنا من نعم الله ما لا نحصيه, مع كثرة ما نعصيه, فما ندري أيها نشكر ؟  أجميلَ ما ظهر ؟ أم قبيحَ ما ستر؟  يا ربنا كم من نعمة أنعمتها علينا قلَّ فيها شكرنا, وكم بلية ابتليتنا بها قلَّ فيها صبرنا ،  فيا من قلَّ شكرنا عند نعمه فلم يحرمنا, ويا من قلَّ صبرنا عند بلائه فلم يخذلنا, ويا من رآنا على الذنوب فلم يفضحنا, ولم يهتك سترنا, ويا ذا المعروف الذي لا ينقضي ،  ويا ذا النعمة التي لا تحول ولا تزول