السهر وأضراره

بسم الله الرحمن الرحيم

السهر وأضراره

أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن مننَ الله على عباده لا تُحصى، ونعمَه عليهم لا تستقصى، وإن من نعمه وآياته ، ومننه وأُعطياته ، أن جعل النوم سباتًا للناس، وجعل الليل لهم خير سكن ولباس ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا ٱلَّيْلَ لِبَاساً﴾ ويقول في ذكر الإنعام في سورة الأنْعَام: ﴿جَعَلَ ٱلَّيْلَ سَكَناً﴾ ليلٌ تهدأ به الأنفاس، وتسكن فيه الأعضاء والحواس، وتحصل فيه الراحة والإيناس . ولهذا ذكره الله ـ تعالى ـ من جملة آلائه فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً﴾ يغشاكم بسواده، فتنقطع فيه حركاتكم ؛ ليحصل لكم السكون والراحة ﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً﴾ تنتشرون فيه لتجارتكم وأعمالكم ، فجعل هذا للارتياح ، وهذا لطلب الأرباح ،  فتقوم بذلك المصالح، ويستعان بهما على العمل الصالح .

أيها المسلمون، إن النوم في أول الليل ، فيه خيرات وبركات، وإن راحة الجسد ، متحقق لمن نام في أوله وأخلد، ولقد كان الليل في زمن مضى ، ميدانَ سَبْق ، ومضمار صدق ، لا ترى فيه إلا مصليًا أو باكيًا ، أو تاليًا أو داعيًا.  يقول الحسن البصري رحمه الله عن سلف الأمة: لقد صحبتُ أقواماً ، يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يقومون هذا الليل على أطرافهم، تسيل دموعهم على خدُودهم، فمرة رُكعاً، ومرةً سجَّداً، يناجون ربَّهم في فكاك رقابهم، لم يملّوا طول السهر ، لِما خالط قلوبهم من حسن الرجاء، فأصبح القوم مما أصابوا من النصب لله ، في أبدانهم فرحين، وبما يَأملون من حسن ثوابهم مستبشرين، فرحم الله امرءاً نافسهم، ولم يرض لنفسه من نفسه ، بالتقصير في أمره ، واليسير من فعله، فإن الدنيا عن أهلها منقطعة، والأعمال على أهلها مردودة .

إن قيام الليل ـ عباد الله ـ عبادةٌ تصل القلب بالله، وتجعله قادراً على مقاومة مغريات الحياة، وعلى مجاهدة النفس ، ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة، وسمات النفوس الكبيرة ﴿كَانُواْ قَلِيلاً مّن ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِٱلأَسْحَـٰرِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ

أيها المسلمون، إن سهرَ الليل إلى أسحاره ، ومسامرتَه إلى أدباره ، ومدافعةَ المرءِ النومَ عند الحاجة إليه ، وتمنُّعَه منه عند هجومه عليه ، ومغالبتَه إغفاءات عينية ، باستخدام منبهات محرمة ، أو تعاطي حبوب مسهِّرة ، يورث آفات عظامًا ، وأخطارًا جسامًا، وينطوي على أضرار صحية ، واضطرابات نفسية ، والسهر سببٌ رئيس لكثير من الجرائم الأخلاقية ، والمشاكل الاجتماعية ، والحوادث المرورية ، والزعازع الأمنية. قال صلى الله عليه وسلم «إياكم والسمر بعد هدأة الليل، فإنكم لا تدرون ما يأتي الله في خلقه»

أيها المسلمون : لنقف على الهدي النبوي، فنقتفي ونقتدي، ونهتدي ونحتمي ، تقول عائشة رضي الله عنها: ما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل العشاء ، ولا سمر بعدها. وحين سمعت رضي الله عنها عروة  يتحدث بعد العشاء ، قالت: ما هذا الحديث بعد العتمة؟! ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم راقدًا قط قبلها ، ولا متحدثًا بعدها، إما مصليًا فيغنم ، أو راقدًا فيسلم . وعن الأسود قال: سألت عائشة رضي الله عنها: كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: كان ينام أول الليل ويقوم آخره. متفق عليه .

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر أحيانًا في بعض مصالح المسلمين، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر الليلة في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا سمر إلا لأحد رجلين: لمصلٍ أو مسافر» وعن عائشة رضي الله عنها قالت: السمر لثلاثة: لعروس أو مسافر أو متهجد بالليل.  وقد بوب البخاري في صحيحة: باب في السمر مع الأهل والضيف، وباب في السمر في الفقه والخير.

وجملة القول أن الحديث بعد العشاء مكروه إلا ما كان في خير أو ما لا بد منه من الحوائج، وكل سهر أدى إلى تضييع واجب شرعي فإنه يكون سهرًا محرمًا، حتى ولو كان في طاعة وعبادة ، ومطالعة واستفادة، وكل سهر أدى إلى الوقوع في محرم ، فهو سهر محرم، والسهر في طاعة الله إذا لم يترتب عليه ضياع واجب ، أو فوات مصلحة شرعية أعلى وأرجح ، فإنه سهر محمود.

الخطبة الثانية

أيها المسلمون : إنكم مأمورون بكف صبيانكم عن الخروج إذا أقبل الليل بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم» وإذا كان لشياطين الجن انتشارًا وانبعاثًا في تلك الساعة ، اقتضى كفَّ الصبيان وحبسَهم؛ فإن لشياطين الإنس في هذا الزمان ، انتشارًا وانبعاثًا طوال ساعات الليل، يحاولون جر الشباب ، إلى أوضار الانحراف والفساد، عبر مغريات وملهيات ، لا يحصرها حاصر، مما يوجب اليقظة والحيطة، فكونوا على حذر، فقد نجى أخو الحذر، وكفوا أولادكم عن الضياع، فإنهم أغمار أغرار ، وكونوا حراسًا أمناء ، وأولياء أوفياء ، وفطناء حكماء، وإياكم والإهمال، فإن نتائجه ضر ، وثمره مر ، وعاقبته خسر ، ومغبته نكر .

أيها المسلمون: لقد استمرأ كثير من الناس السهر المحرم ، الذي أدى بأكثرهم إلى تضييع صلاة الفجر ، حتى خروجها عن وقتها، وصار الذين يشهدونها في جماعة المسلمين في المساجد أفرادٌ قليلون .  وقد أصبح الليل لدى كثير من الناس ، لحظات طيش ، وضلال عيش، وصار السهر اليوم في الأعم الأغلب ، منبعًا للمعار ، ومجمعًا للأخطار ، وطريقًا للمهالك والمضار ، ومسرحًا للمواد المتلفة ، والبرامج المحرمة، بعد أن شحنه الشيطان بأوكار حزبه ، وأفكار جنده . سهرٌ على الجيَف ، وسمرٌ على المعاطب والتلف ، سهرٌ دخيل وغريب، وسمر مخيف مريب، مرتع لكل فاسق ، ومجلبة لكل شر وسوء ، يمرض القلوب، ويولد الجرأة على الذنوب .

أيها المسلمون : في أيام الاختبارات ، وعند إجازة الدارسين ، وعطلة العاملين ، وفي مناسبات الأفراح ، يصبح السهرُ مشكلة ، وآفةٌ مضللة، يلغي أكثرُ السمار فيها الوجود، ويهجرون الرقود، وما علموا أن أيام الصيف ، ما هي إلا طيف وضيف، أيامٌ ثم تنتهي، وليالٍ ثم تنقضي، فطوبى لعبد أخذ من حر لهيبها ، ولفح سمومها ، ويحموم ظلها ، وحميم مائها ، عظةً رادعة ، وذكرى وازعة، تكفه عن قضاء ليله في معصية خالقه، طوبى لعبد زمَّ نفسَه عن غيها، وقضى وقتَه فيما فيه نفعُها، بين حلقات قرآنية، أو دروس علمية، أو دورات شرعية، وتنمية قدرات فكرية وعقلية، أو فسحة مباحة تقية نقية، من المحرمات برية.

واحذر أن تطوِي الليالي عمرَك طيًا ، وأنت في لهوك لا تزداد إلا غيًا، واعلم أن اللحظات والخطرات ، واللفظات والخطوات ، كلها مكشوفة لا يخفى على الله منها شيء، وأصخ السمع لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم فيه إلا كان عليهم ترة، فإن شاء آخذهم به وإن شاء عفا عنهم»

.فاتقوا الله عباد الله، وانتهوا عما نهيتم ، واعلموا أن ثمرة الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.