الثبات على المبادئ

بسم الله الرحمن الرحيم

الثبات على المبادئ

أيها المسلمون، إن الثبات على الطريق ، ولزومَ الجادَّة ، و اتباعَ الصراط ، والحذرَ من تتبع السبل ، آيةُ رشد المرء، وبرهانُ نضجه، ودليلُ سداد رأيه. وإن أرفعَ مراتب الثبات وأعلى درجاته ، ثباتُ القلب على الحق، واستقامتُه على الدين، وسلامتُه من التقلب . لذا كانت الخشية من الزيغ، شأنَ أولي الألباب ونهجَ أولي النهى ، وسبيلَ الراسخين في العلم، الذين يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويرجون رحمته ويخافون عذابه ، وقد ذكر الله سؤالهم إياه التثبيتَ على الحق ، والسلامةَ من الزيغ ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ﴾ وهذه أمُّ سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: «اللهم يا مقلبَ القلوب، ثبت قلبي على دينك»

المؤمن الصادق سباق غايات، وحاوي قصبات، ومدرك نهايات، يجتهد في فكاك نفسه من قيود الأقفاص، يرجو النجاة ويطلب الخلاص، همه الآخرة والمعاد، يمهد لنفسه بالصالحات فيا نعم المهاد. ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ٱبْتِغَاء مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَءوفٌ بِٱلْعِبَادِ

عباد الله : عليكم بعقيدة التوحيد، عضوا بالنواجذ عليها، وكفكفوا الشبه أن تدنو إليها، واعلموا أن من أعظم خصال المسلم الحق ، وأجلّ مميزاته الثبات على دينه، دون أي تذبذب فيه ، أو انحراف عنه ، لشبهة عارضة ، أو شهوة جامحة ، أو فتنة بين الناس شائعة، فإن التذبذب بين الحق والباطل ، وترك السنة الثابتة بعد التخلق بها ، ليس من شأن أهل الإيمان، بل هو من شأن ذوي النفاق والكفران، الموصوفين في محكم القرآن ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلاْخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرٰنُ ٱلْمُبِينُ

وإن مما يُخشى على المؤمن في دار المحنة ، ركوبُ مطية الفتنة، وبوادر الهوى المضلة، وتلك آفة الآفات، وبلية البليات، مصيبة عظمى، ومعضلة كبرى، ما حلت في قلب إلا فسد، ولا مجتمع إلا هلك .

إن أعظمَ الجهاد جهاد الهوى؛ لأن سبيله وعر، وبحره غمر، ويومه شهر، وشهره دهر, ودهره بلاء وشر يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً، فمن قهر هواه عز وساد، ومن قهره هواه ذلّ وهان وهلك وباد .أ. هـ

أيها المسلمون : القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير والرشاد، وشرها أوعاها للبغي والفساد، والنفس إن أتبعتها مناها ، فاغرة نحو هواها فاها، ومن منع نفسه هواها ، فقد استراح من الدنيا وبلاها، وكان محفوظًا معافى من أذاها ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ إن سلطان الهوى يقوى بكثرة دوافعِه ودواعيه، وأنصارِه ومعاونيه، فهو ملك غشوم، ومتسلط ظلوم، فمن لم يلجم نفسه عن الهوى بلجام التقوى، أسرعت به التبعات إلى أرض الندامات، وحلت به الرزايا و الهلكات، ومن خاف الفوات بادر بالمتاب قبل الممات، يقول  صلى الله عليه وسلم : «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» اتهموا أنفسكم في صواب ما أحبت، وتحسين ما اشتهت، فإن عين الهوى عمياء، وأذنه صماء، واتخذوا آيات الكتاب فرقانًا، وبيناته برهانًا، يبن لكم ما استعجم، ويظهر لكم ما استبهم ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً

احذروا أهل البدع والأهواء، والخصومة والمراء، الذين ردوا نصوص الوحيين بمحدثات وأوهام، وسفسطات وفساد أفهام، استهوتهم العقليات، واستلهتهم الفلسفات، فصادموا الثوابت والقطعيات.

إننا في زمن أطلت فيه الفتن، فأقبلت رايات الباطل، وخفقت ألوية الضلال ، مبهرَجة لامعة، وعصفت بالقلوب ريح الشبهات والشهوات، وانبعث سيل من المغريات ، وتوطَّدت سبلُ الغواية واستحكمت، واتخذت من فتنة الكاسيات العاريات ، المائلات المميلات ، وسائرِ الشهوات المحرمات ، عماداً ومحوراً، ودأب فريق من الناس على الاستهانة بالثوابت، والاستخفاف بالمحكمات، وذكت نار الفرقة والاختلاف واستعرت، حتى أوشك أن يذهب ضحيتَها الإخاء ، وبلغ السيل الزبى ، فقرت بهذا الحال أعينُ أعداء الأمة، وطابت به نفوسهم, وبسطوا بالسوء ألسنتَهم.

عباد الله : احذروا التبديل والتغيير، احذروا أن تكونوا من دعاة الضلالة، وأرباب الجهالة، المنادين على الملأ بالمعازف ، الراغبين في ظهورها، المناصرين لتغريب الأمة وتخريب دورها، ذوي الفكر المنكوس، والوضع المعكوس، الذين حذرنا الله منهم في كتابه فقال ﴿وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً

فاتقوا الله عباد الله، وخذوا من هذا النهج القويم ، خير العدة وأفضل الزاد، وسلوا الله أن يثبت القلوب على الدين ، وأن يجنبها الزيغ، فاللهم يا مقلبَ القلوب ثبت قلوبنا على دينك.

الخطبة الثانية

إن الانحرافَ مع دعوى التطوير في ثوابت الدين، وركائز الإسلام في العقيدة والقيم، مما ينتهي بالأمة إلى الانسلاخ من العقيدة ، والتحلل من الأخلاق ، والذوبان في الثقافات الغربية.

إن الاستجابة لتلك الدعوات ، أو التنازل عن بعض ثوابت الدين وعماده، أو التشكيك في مناهج التعليم الشرعية. جرمٌ فاضح، وإحسان الحديث عنه زورٌ وبهتان، وإن تعجبوا ـ عباد الله ـ فعجبٌ لتلك الأفهام ، التي تحمل اسم الإسلام، وما يخطّه بنانها ، وتلوكه ألسنتها ، غريبٌ كل الغرابة عنه، تدفعهم شهوات مشبوهةً، صرعى الأفئدة ،الذين لا يفرقون بين الثوابت والمتغيرات .

من الأمور المنكرة ـ عباد الله ـ تبرير قيم غير المسلمين ، باسم سماحة الإسلام ، فهناك قواعدُ كلية ، لا يجوز الاجتهاد فيها، وأصولٌ ثابتة لا تتغير بتغير الزمان. فسماحة الإسلام لا تعني التبعية المقيتة ، ولا ليَّ أعناق النصوص ، والبحثَ عن الرخص التي لا تستند إلى دليل صحيح ، ونقل صريح .

ما أحوج المسلمين اليوم في زمنٍ عظمت فيه المصيبة، وحلَّت به الرزايا العصيبة، وتخطَّفت عالَم الإسلام أيدي حاسديه، ونهشته أنياب أعاديه، إلى أن يبحثوا عما يحفظ لهم دينهم، ويحصِّن كيانهم ، ويزرع الثقة في مبادئهم ومناهجِ تعليمهم، وليحذروا من شرور المبغضين ، وحسد الحاسدين ، فبلاد الإسلام مستهدفة، وثوابته تواجه تضليلاً وتشكيكاً من خارجها وداخلها، بل وممن على أرضها ويتكلمون بلغتها.

أيها المسلمون : إياكم وحضور مجالسِ الفتن، ومواقعِ النتن، وسلوا الله الثبات، واستعيذوا به من فتنة المحيا والممات، فعند مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات»

لا تكونوا ممن بحث عن مُديته، وانْتضى سيفَ حتفه، وسعى لهلاكه بظلفة، ومشى في فتنة نفسه ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ