الترويح ضوابط وممارسات

بسم الله الرحمن الرحيم

الترويح ضوابط وممارسات

إنّ الإسلامَ دينٌ صالح للواقع والحياة، يعامِل الناسَ على أنهم بشر، لهم ميولهم القلبيّة ، وحظوظُهم النفسية، فلم يَفترض فيهم أن يكونَ كلُّ كلامهم ذكرًا، وكلُّ شرودهم فكرًا، وكلُّ تأمّلاتهم عِبرة، وكلُّ فراغِهم عبادة. وإنّما وسَّع الإسلام التّعاملَ مع كلّ ما تتطلَّبه الفطرة ، من فرح وترح، ولهو ومرَح، وضحكٍ وبكاء ، في حدود ما شرعه الله، محكومًا بآداب الإسلام وحدودِه. ولقد كان عبد الله بن مسعود يقول: وإني لأتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا

إن المراوحة في الأشياء، تزيل التعب والإرهاق، وتجدد النشاط، وتقوي على العمل، وتزيد الطاقة والإنتاج، وليس معنى هذا أن يقطع المسلم يومه لهوًا ولعبًا، ويشغل الأوقات بالعبث والمجون، أو بالعكوف على أفلام ومجلات خليعة، تثير الغرائز، وتفسد القلوب.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن للقلوب شهوة وإقبالاً، وفترة وإدبارًا، فخذوها عند شهواتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها . وقال عمر بن عبد العزيز: لا بأس على المسلم أن يلهو ويمرح ، على أن لا يجعل ذلك عادته وخلقه، فيهزل في موضع الجد، ويعبث ويلهو في وقت العمل.

 عباد الله : قد ينقدح في بعض الأذهان عند الحديث عن الترويح ، أنه سلوك بلا ضوابط، وممارسة بلا منهج، وتعدٍ على حدود الشرع ، فيمارسون الترويح بأي وسيلة، دون تقيّد بحلّ أو حرمة ، أو فضيلة أو رذيلة .

الترويح كما فهمه الرعيل الأول، وسيلة سامية تخدم مصالح ومقاصد عالية، تبني سمات الشخصية ، تُقوِّي الأجساد ، تُهذِّب الأخلاق ، تُدرِّب على الرجولة ، تفتح آفاقًا من العلم والعمل ، مسابقة بالأقلام ، مصارعة لتربية الأجسام ، تحفيز على تعلّم الرمي، سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، كما سابق عائشة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون في السوق فقال: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا» (خ) هذه الشخصية التي تمارس المزاح والمداعبة ، هي ذاتها التي تقوم الليل ، وتصوم النهار، تجاهد في سبيل الله ، وتبذل النفس والنفيس، ويدها سحّاء، كان طويل العبادة والخشوع ، كثير البكاء والخضوع ، لا يفتر لسانه من ذكر، ولا يهدأ باله من تأمل وفكر.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: أغيثوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمي ، ويقول أبو الدرداء: إني لأستجم قلبي من اللهو المباح، ليكون أقوى لي على الحق . ويقول عمر بن عبد العزيز: تحدثوا بكتاب الله، وتجالسوا عليه، وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال حسنٌ جميل

الترويح عند المسلمين ، ليس كل شيء في حياتهم، وإنما هو ترويح بقدر، لئلا يطغى على الأعمال الجادة، والواجبات الأخرى، ولأن عمر الإنسان أغلى وأسمى من أن تُضيَّع أيامه بين لهو عابث، وعبث باطل .

قال صلى الله عليه وسلم: «إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه» (خ)

وواقعُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يؤكِّد أهمية هذا الجانب في حياة الإنسان، يقول سماك بن حَرب: قلتُ لجابر بن سمرة: أكنتَ تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، كان طويلَ الصّمت، وكان أصحابه يتناشَدون الشعرَ عنده، ويذكرون أشياء من أمر الجاهليّة، ويضحكون فيبتسمُ معهم إذا ضحكوا. رواه مسلم ، قالأبو سلمة: فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه

وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن أبي الدرداء أنّه قال: إنّي لأستجمّ نفسي بالشيء من اللّهو غيرِ المحرّم، فيكون أقوى لها على الحقّ .

يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "السَّنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة ، فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد، فعند الجذاذ يَتبين حلو الثمار من مرها .

الخطبة الثانية

ومن أسوأ ما أصيبت به الأمة في هذا الزمن، ظهور أجيال تسيء فهم الإسلام ، وتجعل للوثات الفكر المنحرف ، ومظاهر السلوك المحرم ، رواجًا في تكوين شخصيتها، في انهزامية ظاهرة، وتبعية ممقوتة، وانسياق محموم، ولهث مذموم، خلف سراب التشبه والتقليد، وبهارج العلمنة والتغريب، المنتشرة في بعض صفوف المسلمين ، حتى ضاعت عندهم الهوية الدينية، وفقدت معالم الشخصية الإسلامية .  وإن أمارة المسلم الحق ، بقاؤه ثابتًا على مبادئه، وفيًا لدينه وعقيدته، معتزًا بأصالته ، فخورًا بثوابته، لا يحده عن القيام برسالته زمانٌ ، ولا يحول بينه وبين عبوديته لربه مكان ، فمحياه ومماته لله، وأعماله جميعها لمولاه، ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ

فحيثما كان وحلَّ، وأينما وُجِد وارتحل، فإنه يضع العبودية لله شعاره، وطاعته لربه دثاره. هذا هو منهج المسلم الصادق في إسلامه، القوي في إيمانه .

متى ما استمسكت الأمة بعقيدتها وثوابتها صلحت أحوالها، واستتبّت أوضاعها، وتلاشت عن مجتمعاتها الظواهر المخالفة لدينها ، ومتى فرطت في إسلامها، وأرخت الزمام لسفهائها، يتخبطون خبط عشواء ، في دخيل الأفكار ، وهزيل المناهج ، ومستورَد الثقافات ، وانفتاحٍ على العالم دون ضوابط شرعية ، وآداب مرعية، تفشت بينها الظواهر المخالفة لشريعتها، مما يترك آثارًا سلبية على أفرادها ومجتمعاتها .

أيها المسلمون : في مثل هذه الأيام ، من كل عام، حينما تشتد حرارة الصيف، ويلقي بسمومه اللافح ، يحمل كثيرًا من الناس على الهرب إلى المصائف والمنتزهات، والفرار إلى الشواطئ والمنتجعات، والعزم على السفر والسياحة، وشدِّ الأحزمة للتنقل والرحلات، يوافق ذلك فراغ من الشواغل، وتمتع بإجازة صيفية يقضيها الأبناء بعد عناء ، كل ذلك من أجل الترويح ، ولم بقتصر الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه إلى ممارسة بعض المنكرات كالتبرج والسفور ، وشرب المسكرات والخمور ، وسماع الأغاني والفجور ، ويقولون ساعة وساعة

أيها المسلمون : ليس من الترويح المباح التجول في الشوارع والأسواق، وتتبع العورات، والجلوس في المقاهي والطرقات، الترويح في الإسلام ليس اختلاط الرجال بالنساء، والنظرة المحرمة ، والأهازيج والضّجيج ، التي تقلق الذاكرَ وتكسِر قلبَ الشاكر.

فاتقوا الله عباد الله، فما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة؟!! وما للهِمَم عن ركب المتقين فاترة؟!! وما للألسن عن شكر نعم الله قاصرة؟! وما للعيون إلى زهرة الدنيا الفانية ناظرة؟!! وعن طريق الهداية الواضحة حائرة؟!! فاتقوا الله وأطيعوه ، واتبعوا أوامره ولا تعصوه .