التحذير من الغفلة

بسم الله الرحمن الرحيم

التحذير من الغفلة

عباد الله : عنوان سعادة المرء ، ودلائل توفيقه ، إنما يكون في إنابته لربه ، واستقامته على شرعه ، وإقباله على الله تعالى بنية خالصة ، وعبودية صادقة ، وأن لا تشغله الدنيا ، والسعي في تحصيل ما يؤمل منها ، عن الاستعداد للحياة الباقية ، والتزود للدار الآخرة ، فذلك سبيل الصالحين، ونهج المتقين ﴿رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَاء ٱلزَّكَـوٰةِ يَخَـٰفُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلاْبْصَـٰرُ﴾ وهكذا شأن المؤمن حقاً، يغتنم أيام العمر ، بالأعمال الصالحة ، ويبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة ، لعلمه أن هذه الدنيا ، ما هي إلا وسيلة للفوز بالحياة الباقية ، والظفر بالسعادة الدائمة، لا أنها غاية تبتغى، ولا نهاية ترتجى، وأنه مهما طال فيها العمر، وفسح فيها للمرء الأجل، فسرعان ما تبلى، وعما قريب تفنى، وليس لها عند الله اعتبار، وإنما هي قنطرة إلى الجنة أو النار﴿ٱعْلَمُواْ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ٱلاْمْوٰلِ وَٱلاْوْلْـٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ

وفي (م) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفُكم فيها فينظرَ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء»

إن في ذلك لأبلغَ بيان ، وأوضحَ تصوير لحقيقة الدنيا ، وما يجب أن يكون عليه حالُ المرء فيها ، من الإقبال على الله جل وعلا ، والأخذِ بالنفس في دروب الصلاح والتقى، ومجانبةِ الشهوات والهوى، والحذر من الاغترار بالدنيا، غير أن الكثيرين منا في غفلة عن ذلك ، حتى غلب عليهم طولُ الأمل، وران على قلوبهم سوءُ العمل .

أيها المسلمون، يقول الله تعالى مويخاً فئة من البشر غافلةً ساهية ﴿وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ

أفلا يرون الكواكبَ الزاهرات ؟ والأفلاكً الدائرات ، والجميعُ بأمره مسخرات ، وكم في الأرض من قطع متجاورات ، وحدائقَ وجنات ، وجبالٍ راسيات ، وبحارٍ زاخرات ، وأمواجٍ متلاطمات ، وقفارٍ شاسعات ، ثم هم يجعلون لله البنات ، ويعبدون من دونه العزى واللات، فسبحان الواحد الأحد ، خالقِ جميعِ المخلوقات. وثمَّ أمرٌ لذي اللبِّ المتأمّل ، يجعل العجب يأخذ منه كلَّ مأخذ ، حينما يرى هذا الإنسان ، وهو ينكص على عقبيه ، ويولِّي الدّبر، منصرفاً عن عبودية خالقه ومولاه، منشغلاً بالأولى عن الأخرى ، والفاني عن الباقي، يتقلَّب بين الملذات والشهوات . وقد كان الأجدر به ، وقد أكرمه الله ونعّمه ، أن يكون عابداً لا غافلاً، طائعاً لا عاصيًا، مقبلاً على ربه لا مدبراً، شاكراً لا كافراً، محسنا لا ظالماً.

يا عجبا من مضغةِ لحم أقسى من الصخر ، تسمعُ آيات الله تتلى عليها ، ثم تصرُّ مستكبرة كأن لم تسمعها ، كأن وقراً في أذنيها ، فهي لا تلين ولا تخشع، ولا تهبط ولا تصدّع، ولو وعظها لقمان ، أو تليت عليها آيات القرآن ﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

إن من مظاهر غلبة الغفلة على القلوب، واستيلائها على النفوس لدى البعض، أن لا يكون لهم همّ سوى جمع الأموال، وتضخيم الثروات؛ حتى سلكوا في تحصيل ذلك مسالك مشبوهة ، وسبلاً محرمة . وآخرون ليس لهم همّ إلا البحثُ عن الجاهِ العريض، والشهرةِ الواسعة، وإن كان على حساب الدين والفضيلة .

قال ابن القيم

فأكثر الخلق لا ينظرون في المراد من إيجادهم ، ولا يتفكرون في قلة مُقامهم في دار الغرور ، ولا إلى أين يرحلون؟  وأين يستقرون ؟ قلَّ نصيبهم من العقل ، وشملتهم الغفلة،  وغرتهم الأماني ، وخدعهم طول الأمل، وكأن المقيمَ لا يرحل ، وكأن أحدَهم لا يبعث ولا يسأل ، وكأن مع كل مقيم توقيع من الله  لفلان بن فلان ، بالأمان من عذابه ، والفوزِ بجزيل ثوابه ، فأما اللذاتُ الحسية،  والشهواتُ النفسية ، كيفما حصلت  فإنهم حصلوها ، ومن أي وجه لاحت أخذوها ، غافلين عن المطالبة ، آمنين من العاقبة ، يسعون لما يدركون ، ويتركون ماهم به مطالبون ، ويعمرون ما هم عنه منتقلون ، ويُخرِبون ما هم إليه صائرون ، وهم عن الآخرة هم غافلون ، ألهتهم شهواتُ نفوسهم ، فلا ينظرون في مصالحها ، ولا يأخذون في جمع زادها في سفرها ﴿نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ

الخطبة الثانية

أيها المسلمون، إن الشهور والأعوام، والليالي والأيام ، مواقيتُ الأعمال ، ومقاديرُ الآجال ، تنقضي جميعاً ، وتمضي سريعاً ، والليلُ والنهار يتعاقبان لا يفتران ، ومطيَّتان تُقربان كل بعيد ، وتجيآن بكل موعود جديد ، والسعيد لا يركن إلى الخُدَع، ولا يغترُّ بالطمع، فكم من مستقبلٍ يوماً لا يستكمله، وكم من مؤَمِّلٍ لغدٍ لا يدركه .

فيا من تمرّ عليه سنةٌ بعد سنة، وهو في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عامٌ بعد عام، وقد غرق في بحر الخطايا وهام، قل لي بربك لأي يوم أخرت توبتك ؟ ولأي عام ادخرت أوبتك ؟ إلى عامِ قابل ، فما إليك مدةُ الأعمار، ولا معرفةُ المقدار، فبادر التوبة واحذر التسويف ، وأصلح من قلبك ما فسد، وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد، وكن من أَجَلك على رصد، فقد أزف الرحيل وقرب التحويل، والعمر أمانة ، سيُسأل عنه المرء يوم القيامة ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمتُ على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي .

يا من قد بقي من عمره القليل، ولا يدري متى يقع الرحيل ، يا من تُعد عليه أنفاسه استدركها ، يا من ستفوت أيامه أدركها ، نفسك أعزُّ ما عليك فلا تهلكها ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ويا من أقعده الحرمان، يا من أركسه العصيان، كم ضيّعت من أعوام، وقضيتها في اللهو والمنام، كم أغلقت باباً على قبيح ، كم أعرضت عن قول النصيح ، كم صلاةٍ تركتها، ونظرةٍ أصبتها، وحقوقٍ أضعتها، ومناهٍ أتيتها، وشرورٍ نشرتها، أنسيت ساعة الاحتضار «لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات»

عباد الله : أين من عاشرناه كثيراً وألفنا ، أين من عرفناه طويلاً وأحبنا، كم عزيز دفنّاه وانصرفنا، كم قريب أضجعناه في اللحد وما وقفنا، فهل رحم الموت منا مريضاً لضعف حاله ؟ هل ترك كاسباً لأجل أطفاله ؟ هل أمهل ذا عيال من أجل عياله؟

أفلا نتعظ – يا عباد الله – بما حل بالماضين ﴿فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بَآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ ألا تعتبرْ بمن نشيعُ كل يوم إلى الدار الآخرة ، يذهب فيها أفراد وجماعات، وآباء وأمهات، وأبناء وبنات، وملوك ومماليك، وأغنياء وصعاليك، ومؤمنون وكفار، وأبرارٌ وفجار، يودَعون القبور، وينتظرون يوم النفخ في الصور ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ

فتوبوا إلى ربكم قبل أن يشتمل الهدمُ على البناء، والكدرُ على الصفاء، وينقطع من الحياة حبل الرجاء، وقبل أن تخلو المنازلُ من أربابها، وتؤذن الديار بخرابها، وليحاسب كلُّ واحد منكم نفسه، فقد سعد من لاحظها وحاسبها، وفاز من تابعها وعاتبها.

عبد الله : استدرك من العمر ذاهباً، ودع اللهو جانباً، وقم في الدجى مخبتاً، وقف على الباب تائباً .