التحذير من الاغترار بالعمل

بسم الله الرحمن الرحيم

التحذير من الاغترار بالعمل

فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى وسارعوا إلى مرضاته بجليل الطاعات، وعظيمِ القربات، واغتنامِ الفرص والأوقات، اغتنموا حياتَكم قبل فنائها، وأعمارَكم قبل انقضائها، ونِعمَكم قبل زوالِها، وعافيتَكم قبل تحولِها، ويسرَ أمورِكم قبل عسرِها، وصحةَ أبدانِكم قبل سقمِها . فلقد يسرَ الله طرقَ الخيرات، وتابعَ لعباده مواسمَ الحسنات، مضت أيامٌ مباركات ، حج فيها من أكرمه الله به ، وصام عرفة من منّ الله عليه ، وتقرب في العشر بصالح الأعمال من وفقه الله  ، نسأل الله القبول من الجميع.

أيها المسلمون: دأبُ الصالحين خوفُهم من عدم قبول الأعمال الصالحات، يقول الحسن البصري: "أدركت أقوامًا لو أنفق أحدهم ملءَ الأرض ما أمن ، لعظم الذنب في نفسه" ، فلا تثق بكثرة العمل؛ فإنك لا تدري أيقبل منك أم لا؟، ولا تأمن ذنوبك ، فإنك لا تدري أكُفِّرت عنك أم لا؟ والمعجب بعمله مخذول، وكم من عابد قد أفسده العجب، ومن المهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، يقول ابن مسعود رضي الله عنه : الهلاك في اثنتين: القنوط والعجب ، ومن لم يتفقد آفات الأعمال ، كان عمله إلى البوار، فما أهون إحباط الأعمال ، بالمّن والأذى تبطل الصدقة، وبترك صلاة العصر يبطل العمل .

فاستعن بالله على نفي الإعجاب باحتقار الأعمال، وتذكر آلاء الله عليك، يقول سعيد بن جبير: "دخل رجل الجنة بمعصية، ودخل رجل النار بطاعة" قيل: وكيف ذلك يا سعيد؟! قال: "عمل رجل معصية فما زال خائفًا من فعلها، فأدخله الله الجنة بخوفه منه، وعمل رجلٌ طاعة، فما زال معجبًا بها حتى أحبط الله عمله فدخل النار". فاحفظ ما عملته من صالحات ، بالإقرار بالتقصير، وطلب المغفرة والرضوان.

أيها المسلمون: الخطايا مطوقة في أعناق الرجال، والهلاك في الإصرار عليها، وما أعرض معرض عن طاعته ، إلا عثر في ثوب غفلته، ومن أصلح ما بينه و بين الله ، أصلح الله ما بينه وبين الخلق ، فإياك والمعاصي بعد الطاعات، فالعاصي في شقاء، والخطيئة تذل الإنسان، وتخرس اللسان .

أيها الناس: إن الله تعالى قد حثنا على المسارعة إلى مغفرته وجنته، فقال سبحانه:﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ إن المسارعةَ في الخيرات ، صفةٌ جامعةٌ لفنون المحاسن ، فإن من رغب في أمر سارع في القيام به، وآثر الفورَ على التراخي فيه، ولهذا أمر الله تعالى به حيث قال ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾ واستباقُ الخيرات يتضمنُ المبادرةَ إليها ، وفعلَها على أحسن الوجوه، وتكميلَها بإيقاعِها على أكملِ الأحوال . والخيراتُ تشملُ جميعَ الفرائضِ والنوافل ، والمسارعُ في الدنيا إلى الخيرات ، هو السابقُ في الآخرة إلى الجنات ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ

أيها المسلمون : سِيَرُ العظماءِ تبعثُ الهمم، وأخبارُ النبلاءِ توقظُ العزائم، وأحوالُ السبّاقين توقظُ الغافلين، أخبارُهم عطرة، وسيرُهم مبهجة، وحياتُهم مذهلة، أخمصوا البطونَ عن مطاعم الحرام، وأغمضوا الجفونَ عن مناظر الآثام ، وحفظوا الجوارحَ عن فضول الكلام، وصلوا بالليل والناسُ نيام، وصاموا فأحسنوا الصيام، وحجوا فحققوا الاتباع وأطاعوا الملك العلام .

عند الترمذي أن عائشة – رضي الله عنها - قالت:  يا رسول الله ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل، قال: «لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم ﴿أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾» فهم يبذلون ويعملون ، ويؤتون ويجتهدون، ومع ذلك قلوبُهم وجلة، وأفئدتُهم خائفة، وكان المتوقع أنهم يعيشون بأنفسٍ مطمئنة، وأفئدةٍ سالية ، فَرَحاً بما قدموا، واتكالاً على ما بذلوا، وسروراً بما عملوا. لكن قلوبَهم وجلت ، وفرائصَهم ارتعدت ؟ لأنهم أيقنوا أنهم إلى ربهم راجعون، فهم يتذكرون هول المطلع عليه، وعظمةَ الموقفِ بين يديه، آمنوا بكماله، وأيقنوا بجلاله، ونظروا إلى نعمه ، ثم التفتوا إلى أعمالِهم وضآلتِها، وجهودِهم وقلتِها، فقد لا تسلم من خلل، ولا تنجو من زلل، ولا تصفوا من رياء، فكان الوجلُ طريقَهم إلى الاطمئنان، والخوفُ موصلَهم للأمان، والإشفاقُ قائدَهم لرضا المنان ، فسماهم المسارعين، ووصفهم بالسابقين ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ

إذا ما الليل أظلم كابـدوه *** فيسفر عنهم وهـم ركوع

أطار الخوف نومهم فقاموا *** وأهل الأمن في الدنيا هجوع

الخطبة الثانية

فالمؤمن لا يمُنُّ على الله بأعماله، ولا يباهي بأفعاله، بل يخشى ويخاف، ويخشعُ ويتذلل، يجتهدُ وهو على وجل، ويعملُ وهو في حذر، وذاك هو الذي افتقده الخلف ، وهو ديدنُ السلف، فقد كانوا فرساناً بالنهار، رهباناً بالليل، قدموا لله أرواحَهم، وبذلوا في سبيله أنفسَهم، وصفت له سرائرُهم، وأشرقت بحبه قلوبُهم، وأسهر الإشفاقُ أعينَهم، وأقضت النارُ مضاجعَهم.

عند الترمذي : كان صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام، فقال: «يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج, ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية،ألا إن سلعة الله الجنة،جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه»

وكان أبو بكر رضي الله عنه  رجلاً أسيفاً، إذا صلى بالناس لا تُكاد تسمع قراءتَه من كثرة بكائه . وكان في وجه عمر رضي الله عنه خطان أسودان من كثرة البكاء، وكان يُسمع بكاؤه من آخر الصفوف،

بكى عمرُ الفاروقُ خوفاً وخشيةً *** وقد كان في الأرضِ الإمامَ المثاليا

وقال بصوتِ الحزنِ يا ليت أنني *** نجوت كفافـاً لا عليّ ولا ليـا

وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه  يصوم النهار ويقوم الليل، وكان إذا وقف على قبر يبكي حتى تخضلَّ لحيتُه من البكاء، . أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه  فقد كان صواماً قواماً ، صلى صلاة الفجر في يوم من الأيام فجلس حزيناً مطرقا، فلما طلعت الشمس قبض على لحيته، وبدأ يبكي ثم قال: لقد رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً ، بين أعينهم كأمثال ركب المعزى من كثرة السجود، قد باتوا لله سجداً وقياماً ، يراوحون بين جباهِهم وأقدامِهم، فإذا طلع الفجرُ ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح ، وهطلت أعينُهم بالدموع ، والله لكأنّ القوم باتوا غافلين.

وقد وصف المتقين بقوله: شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياماً قليلة، لعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافون أقدامَهم ، تجري دموعُهم على خدودِهم، يجأرون إلى الله في فكاك رقابِهم، وأما النهار فظماء بررة .

عباد الله : لقد كان السلف الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة وقلوبهم وجلة، وكانوا يتنافسون في أعمال البر حذراً من لوم النفس عند انقطاع العمل ، وذلك هو الطريق الرابح، أعمالٌ جليلة، وعبادةٌ عظيمة،  وخشوعٌ وخضوع، مع خوفٍ ووجل ، وإشفاقٍ وخشية ، فلا يُعجَب المرء بعملِه مهما عظُم، ولا يحتقِر ذنباً مهما صغُر، والتعرّفُ على حقّ الله ، وعظيمِ فضله ومنّه ، وتذكّرُ كثرة نعمِه وآلائه ، يطأطِئ الرأسَ للجبّار جلّ وعلا، ويدرك المرءُ معه تقصيرَه على شكر النعم .