الإسراف ومظاهره

بسم الله الرحمن الرحيم

الإسراف ومظاهره

لقد امتن الله سبحانه وتعالى على عباده بأن سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة و باطنة ، وأمرهم بالانتفاع من الطيبات،  وجعل ذلك للناس عامة ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً﴾ .وخص المؤمنين بهذا الانتفاع لأنهم المقدرون حق هذه النعمة ، القائمون بشكر الله عليها  ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ والتمتع بهذه الطيبات والانتفاع بها في حدود الاعتدال ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا﴾.

وأنكر الله تعالى على من حرم هذه الطيبات ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ﴾. ولا تنس حديث : «ذهب أهل الدثور بالأجور» فهؤلاء أهل العمل المبرور ، والسعي المشكور ، والتجارة التي لا تبور ، وهم الذين بنوا المساجد

، لكل راكع وساجد ، وأطعموا الفقراء والمساكين ، وأسعفوا البؤساء والمحتاجين ، وبذلوا المال والطعام ، وكفلوا الأيتام ، فهم يجمعون الحسنات كل حين ، ولا حسد إلا في اثنتين  .

عباد الله : إن كثرة المال سبب من أسباب الطغيان ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ فالمتكبرون المستعلون على الله ينفقون أموالهم في سبيل تحقيق مآربهم وشهواتهم وأهوائهم ، وتأمل قصة صاحب الجنتين الذي اغتر بما آتاه الله وجحد نعمة الله عليه فجعله الله تعالى عبرة وعظة للمتكبرين المترفين الذين يذكرون بالله فلا يتذكرون ، ويوعظون فلا يتعظون ، ويخوفون فلا يخافون ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً﴾ .

ولقد حرم الله سبحانه وتعالى إنفاق المال في المحرمات  ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ ، قال ابن عباس  رضي الله عنهما : لا تنفق في باطل . وقال مجاهد رحمه الله : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيرا ، ولو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا. وقال قتادة رحمه الله : التبذير : النفقة في معصية الله تعالى ، وفي غير الحق  وفي الفساد .

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن صرف المال في غير وجوهه الشرعية مما نهى الله تعالى عنه وكرهه لعباده ، عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال : قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، ويكره لكم : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال» (خ)

ومن ذلك أن نهى الله تعالى عباده عن إعطاء المال إلى من لا يحسن التصرف فيه ﴿وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾.

وما أسعد المسلم ، حين تعتدل أمامه مسالك الحياة ، فيعمل ويكسب الحلال الطيب ، وتستقيم يده ، وهي تنفق من هذا الكسب الكريم ، ويدخر لنفسه ، ما يحتاج إليه في غده قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص : «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» وقال صلى الله عليه وسلم:  «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت».

لما فقد المال الصالح ، من يد الرجل الصالح ، بليت المجتمعات – إلا من رحم الله – بطائفة الأثرياء المترفين ، الذين ضعف عند بعضهم الخلق والدين ، واستخفوا بقواعد الإيمان ومبادئ الإسلام ، يأكلون كما تأكل الأنعام ويشربون شرب الهيم ، دون أن يؤدوا واجبا لدينهم أو مجتمعهم ،

و في  كتاب ربنا و سنة نبينا صلى الله عليه وسلم طائفة من الوصايا والآداب والأحكام قصدت إلى تنظيم شؤون المسلم على أساس كريم . في مطعمه وملبسه ، ومسكنه ومركبه ، وسائر ما يتعلق برغباته وآماله ، التي يسعى إليها في حياته ومعاشة . في مسلك وسط ، ومنهج عدل.

أيها المسلمون : وهذا مسلك في المال خاطئ ، تولى القران الحديث عنه وعن أهله ، بينه وفضح الغارقين فيه ، وأظهر آثاره ، وجزاء المنغمسين فيه والمقصرين في علاجه . إنه الإسراف والتبذير ، ذلك الداء الذي ينبت أخلاقاً مرذولة ، ويهدم بيوتاً عامرة ..... الجبن والظلم من آثاره ، وقلة الأمانة من نتائجه ، والإمساك عن البذل في وجوه الخير من صنائعه ، تمسخ به الفطرة ، وتفسد به الأمزجة ، وتختل به الأذواق ، وتهتز به القيم والموازين . الإسراف يورث الجبن ، لأن تعلق النفس بمشتهياتها ، وإسرافها على نفسها ، في زينتها ولذيذ عيشها ، يقوى حرصها على الحياة وكراهيتها للموت ، من احتفت به ملاذ العيش ، وأطلق لنفسه العنان في رغائبها  ، تجنب خوض غمار موارد العزة والأنفة .

الخطبة الثانية

إن من اعتاد التقلب في الزينة ، وألف العيش الرضي ، يغلب عليه الحرص على هذه الحال ، فيتحاشى المواقف التي تفوت عليه بعض لذائذه ، فيسكت عن الحق ، ويتغاضى عن الباطل وتثقل عليه مجالس الناصحين.

كم خربت بيوت عامرة تحكمت فيها نساء ، وأشباه نساء ، في حلي وحلل ، يتكلفون ما لا يطيقون ، وينافسون على ما لا يقدرون . مظاهر البذخ في الأفراح والمناسبات ، والإسراف في ألوان الحفلات ، وصنوف الموائد ، رئاء الناس و حب الظهور والسمعة. أصبحت أمراً مألوفاً ، وشيئاً مكشوفاً ، غلو وغفلة ولهو وطرب ، وغناء ورقص، وخلاعة وملاهي . ناهيك بمن يسرفون في ملابس عارية وشبه عارية ، لقد طاف أهل الجاهلية الأولى ببيت الله المحرم عراة. وهاهم أبناء حضارة اليوم يتعرون بغالي الأثمان ، ويسمون ذلك رقيا وتقدما ، وحضارة وتمدناً . أرأيت كيف يمسخ الإسراف الأذواق ، ويفسد القيم ، ويذيب الأخلاق

لقد تأذى الشرفاء وأزعج الكرماء ، يوم جيء إليهم ببدع من المدنية ، ثياب للحفلات ، وأخرى للزيارات ،  وما يلبس في الليل لا يصلح في النهار.

أي إسراف ؟ وأي ترف ؟ حين ترى فتيانا وفتيات يدخرون للمستقبل ، وتعقد عليهم الأمة آمالها ، لا هم للواحد منهم إلا  أن يجعل من نفسه معرض أزياء يسير بين الناس ، يسرف في ماله ووقته ، ليمضي الساعات الطوال أمام المرآة ليستكمل وجاهته ويطمئن إلى أناقته . فمتى كان اتساق الملابس على الأجسام ، شارة الكمال ، وعنوان الرجولة ؟؟.

وما تعيشه الأمة في هذه الأيام من تسابق إلى السفر خارج الديار ، فراراً من الحر زعموا ، فهذا يسأل عن مصايف الشرق ، وذاك عن دور الغرب ، وثالث أشغلته الإعلانات ، فراح يقلب الدعايات ، بحثاً عن أفضل العروض ، للاستمتاع بالشهوات ، بل وصل الأمر للسفر بالعوائل ، إلى بلاد الكفر والفجور ، والتحلل والسفور ، ولا تسأل عن الحجاب ، أما الحياء والحشمة فقد أصبح في طي النسيان . دفعهم إلى السفر ، الرغبة في إشباع هذه الغرائز ،  عن طريق الحرام ، من مشاهدة الأفلام العاهرة ، والمجلات الداعرة ، والمسارح  والملاهي ، حتى تصبح النفس عابدة لهواها ، تسعى لإشباع رغباتها .

وهذا الانغماس في الملذات المحرمة يدفع إليه البحث عن السعادة ، لفقدهم السعادة الحقيقية المتمثلة في الإيمان الصادق والانقياد لما شرعه الله تعالى ، و كل ذلك بصوره وألوانه إسراف ممقوت يزيد المبتلى به انهماكاً في المحقرات . وفراراً من التكاليف .