الأخوة وآدابها

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخوة وآدابها

ذكر الله عز وجل عباده المؤمنين  نعمته عليهم في الدين ، إذ ألف بينهم بعد أن كانوا متفرقين ، فأصبحوا بنعمته إخواناً ، بالألفة متفقين ، وعلى البر والتقوى متعاونين ، ثم ضم التذكرة بالنعمة عليهم إلى تقواه ، وأمر بالاعتصام بحبله وهداه ، ونهى عن التفرق إذ جمعتهم الدار ، وقرن ذلك بالمنة منه عليهم إذ أنقذهم من شفا حفرة النار ، فقال ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.

وقد كانت المؤاخاة في الله تعالى ، والصحبة لأجله ، والمحبة له ، طرائق للعاملين ، لما في ذلك من الفضل ، ولما جاء فيه من الأمر والندب ، إذ كان الحب في الله عز وجل من أوثق عري الإيمان ، وكانت الألفة والصحبة لأجله ، والمحبة والتزاور من صفات المتقين . قال صلى الله عليه وسلم  «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان» وذكر منها :«وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله» (خ) ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : «ورجلان تحبا في الله اجتمعا عليه و تفرقا عليه»

ولا تصح المحبة في الله عز وجل إلا بما شرط فيها من الرحمة في الاجتماع ، والاجتماع بعد الافتراق ، بظهور النصيحة ، واجتناب الغيبة ، وتمام الوفاء ، ووجود الأنس ، وفقد الجفاء ، وارتفاع الوحشة ، ووجود الانبساط ، وزوال الاحتشام .

وكان الفضيل يقول : إذا وقعت الغيبة ارتفعت الأخوة .

وقال آخر : ما تآخى اثنان في الله عز وجل فاستوحش أحدهما من صاحبه واحتشم منه إلا لعلة في أحدهما .

وقد ضم الله عز وجل الصديق إلى الأهل ، ووصله بهم ثم رفع الأخ وقدمه على الصديق ، وذلك في قوله عز وجل ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ﴾ كان الأخ يدفع مفاتح خزائنه إلى أخيه ، ويتصرف في الحضر ، ويتقلب في السفر ، ويقول لأخيه : حكمك فيما أملك كحكمي ، وملكك له كملكي ، فكان أخوه يتحرج ، فيقتر على نفسه لأجل غيبة أخيه ، ويقول : لو كان حاضراً لاتسعت وأكلت رغداً ، للورع الذي فيه ، والنصح والإيثار لأخيه ، فرحم الله تحرجهم ، وشكر تورعهم فأطلق لهم الإذن ، ووسع عليه في الأكل ، فقال عز وجل ﴿وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ أي: لا إثم ولا حرج : ﴿أَن تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ﴾ .

وقال ابن عباس في وصيته لمجاهد : ولا تذكر أخاك إذا تغيب عنك إلا بمثل ما تحب أن تذكر به إذا غبت .

قال بعضهم : قليل الوفاء بعد الوفاة ، خير من كثيره في حال الحياة ، وكذلك كان السلف فيما ذكره الحسن وغيره ، قالوا : كان أحدهم يخلف أخاه في عياله بعد موته أربعين سنة لا يفقدون إلا وجهه ، وكان منهم من إذا استدان ديناً ثقيلاً يقضيه عنه أخوه وهو لا يعلم .

فمن حقيقة المؤاخاة في الله عز وجل : إخلاص المودة له بالغيب والشهادة ، واستواء القلب مع اللسان ، واعتدال السر مع العلانية ، في الجماعة والخلوة .

وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول : إذا تغير أخوك وحال عما كان فلا تدعه لأجل ذلك ، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى .

وقال الحسن : دار أخاك ولا تطع فيه حاسداً فتكون مثله . 

وكان بعضهم يقول : لقاء الإخوان مسلاة للهم ، ومذهبة للأحزان . وكان عطاء يقول : تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث ، فإن كانوا مرضى فعودوهم ، وإن كانوا مشاغيل فأعينوهم ، وإن كانوا نسوا فذكروهم .

وكان سعيد بن العاص يقول : لجليسي علي ثلاث : إذا دانا رحبت به ، وإذا حدث أقبلت عليه ، وإذا جلس أوسعت له .

وأول ما تصح له المحبة في الله عز وجل أن لا تكون لأجل معصية ، ولا على حظ من الدنيا ، ولا لسبب موافقته على الهوى ، بل  يحبه لما تلبّس به من طاعة الله ، وخشيته ومراقبته ، ولحسن خلقه ، وفضل أدبه ، وحسن حلمه ، وكمال عقله ، وكثرة احتماله وصبره ، أو لوجود الأنس به وارتفاع الوحشة منه ، أو للألفة التي جعل الله بينه وبينه .

الخطبة الثانية

فلقد كان السلف –رحمهم الله -  يتآخون ويتعارفون لمنافع الآخرة الباقية ، لا لمرافقة الدنيا الفانية ، وأفضل الأخوة المحبة الدائمة ، والألفة اللازمة .

وقد كان بعض الصالحين يقول : أحب الناس إلى من أهدى إلي عيوبي ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول – ويأمر أصحابه بذلك - :  (رحم الله أمراً أهدى إلي أخيه عيوب نفسه).

ومن أخلاق السلف : أن الرجل منهم كان إذا كره من أخيه خلقاً عاتبه فيما بينه وبينه ، أو كاتبه في صحيفة .

قال أبو طالب : وهذا لعمري فرق بين النصيحة  والفضيحة ، فما كان في السر فهو نصيحة ، وما كان على العلانية فهو فضيحة ، وقلما تصح فيه النية لوجه الله تعالى لأن فيه شناعة .

وينبغي أن ينصر أخاه ، ويعينه بماله  ولسانه ، وقلبه  وفعاله . فإن النصرة في الله تعالى تكون بهذه المعاني الأربع : بالنفس إن احتاج إليك في الأفعال . وباللسان إن ظلم في المقال . وبالمواساة إن احتاج إلى المال ، وأقل ذلك بالقلب ، أن يساعده في الهم والكرب ، وعليه أن يحفظ غيبه ، وينشر فضله ، ويطوي زلله ، ويقبل علله .

ويقال : ما من الناس أحد إلا له محاسن ومساوئ . فالأخ الشفيق الكريم يذكر أحسن ما يعلم في أخيه ، والمنافق اللئيم يذكر أسوأ ما يعلم فيه

وقال عبد الله بن الحسن : إياك ومعاداة الرجال ، فإنك لن تعدم مكر حليم ، أو مفاجأة لئيم . وقال بعض الحكماء : ظاهر العتاب ، خير من مكنون الحقد ، ولا يزيدك لطف الحاقد إلا وحشة منه . وقال بعض السلف : أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان ، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم .

ومن آداب الصحبة : أن يحب أخاه باعتدال ، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يكن حبك كلفاً ، وبغضك تلفا . قال اسلم قلت : وكيف ذلك ؟ قال : إذا أحببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه ، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضاً تحب أن يتلف صاحبك ويهلك .

قال علي رضي الله عنه : هل تدري ما قال الأول ؟ أحبب حبيبك هوناً ما ، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما ، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما  : قال ابن الأثير: أي : حباً مقتصداً لا إفراط فيه . فلا تسرف في الحب والبغض ، فعسى أن يصير الحبيب بغيضاً ، والبغيض حبيباً ، فلا تكون قد أسرفت في الحب فتندم ، ولا في البغض فتستحيي  .

وقال الحسن : تنقوا الإخوان والأصحاب والمجالس ، وأحبوا هوناً ، وأبغضوا هوناً ، فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا ، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا ، وإن رأيت دون أخيك ستراً فلا تكشفه .

فعسى الله أن يجعل في القلوب محبة بعد البغضة ، ومودة بعد النفرة ، وألفة بعد الفرقة . والله قدير على الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة ، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة ، فتصبح مجتمعة متفقة ، قال الله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ