خطبة استسقاء

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة استسقاء

تأملوا في هذه الحياة، متكدر صفوها ، كثيرة عِللُها، إن أضحكت قليلاً، فلقد أبكت طويلاً، تفكروا في حال من جمعها ثم منعها، انتقلت إلى غيره، وحمل إثمها ومغرمها، فيا حسرة من فرط في جنب الله، ويا ندامة من اجترأ على محارم الله....أقوام غافلون جاءتهم المواعظ فاستَثقلوها، وتوالت عليهم النصائح فرفضوها، وتتالت عليهم نعم الله فما شكروها، ثم جاءهم ريب المنون ، فأصبحوا بأعمالهم مرتهنين، وعلى ما قدمت أيديهم نادمين ﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ

عباد الله : في أعقاب الزمن ، تنتكس الفطر، وتُدرَس معالم الشريعة ، وإنه ما من زمان إلا والذي بعده شرّ منه حتى تلقوا ربَّكم، وإنكم ستعرفون من الناس وتُنكرون، حتى يأتي على الناس زمن ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، حتى يصبح الكتاب والسنة في الناس ، وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم ، اجتمع أقوامٌ على الفُرقة، وافترقوا عن الجماعة، كأنهم أئمة الكتاب، وليس الكتاب إمامَهم.

أيها المسلمون :إن ما حلَّ بالأمم من شديد العقوبات، ولا أُخذوا من غِيَر بفظيع المثلات ، إلا بسبب التقصير في التوحيد والتقوى، وإيثار الشهوات وغلبة الأهواء، ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـٰهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ المعاصي تفسد الديار العامرة، وتسلب النعم الباطنة والظاهرة، ذنوب ومعاصي، إلى الله منها المشتكى، وإليه وحده المفر، وبه سبحانه المعتصم ، اضطرابٌ عقدي، وتحلّلٌ فكري، وتدهورٌ أخلاقي، تظالم بين العباد، ونهب للحقوق، وأكل لأموال الناس بالباطل، نعم، لولا الذنوب وآثارها، والمظالم وشؤمها ، لصبت السماء أمطارها، ولبادرت غيثها ومدرارها.

أيها المسلمون : إن الله سبحانه يبتلي عباده بنقص الثمرات ، وحبسِ البركات، ليتوب تائب، ويُقلع مقلع، ويتذكَّر متذكِّر، ويزدجر مزدجر، فما لبعض الناس لا يرجون لله وقاراً، وقد خلقهم أطوارا؟! فرحم الله امرأً استقبل توبتَه، واستقال خطيئتَه، وبادر منيتَه .

ألا فاتقوا الله ربكم ، وتوجهوا إليه بقلوبكم، وأحسنوا به الظن .... تعجّلوا الإنابة، وبادروا بالتوبة، وألحوا في المسألة ... إذا كثر الاستغفار في الأمة، وصدر عن قلوب صادقة ، دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرف عنها صنوفاً من البلايا والمحن: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾..

عباد الله : تبارك اسم ربنا ، هو غفار الذنوب، وستار العيوب، ينادي عباده  ﴿وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ ويناديهم «يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم» هو أعلم بخلقه، علم عجزهم وضعفهم ، ونقصهم وتقصيرهم ، ففتح لهم باب الرجاء في عفوه ، والطمع في رحمته ، والأمل في مرضاته ﴿وَٱللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ الرحمات من ربنا فياضة ، لا ينقطع مددها، والنعم من عنده دفاقة ، لا ينقص عطاؤها ، تراكمت الكروب فكشفها، وحلت الجدوب فرفعها، أطعم وأسقى، وكفى وآوى، وأغنى وأقنى، نعمه لا تحصى، وإحسانه لا يستقصى، كم قصدته النفوس بحوائجها فقضاها، وانطرحت بين يديه ففرج كربها وأعطاها، لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، هو ربنا ومولانا، وهو أرحم الراحمين ، وأكرم الأكرمين .

عباد الله : ها أنتم قد حضرتم بين يدي ربكم ، تبسطون إليه حاجتكم ، وتشكون جدب دياركم ، وغور آباركم ، ومن ذنوبكم تستغفرون، فأقبلوا عليه ، وتقربوا بصالح العمل لديه، ابتهلوا وتضرعوا وادعوا واستغفروا ﴿وَيٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ

أيها المسلمون : إذا علمنا أننا مضطرون إلى رحمة ربنا ، وأنه لا يكشف كربنا ، ولا يغيث شدتنا ، ولا يجيب دعوتنا ، إلا الرحيم الرحمن ، الجواد المنان . وإذا علمنا أن الدعاء هو العبادة، وأن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً، وأن من دعا الله بإخلاص وصدق فلن يخيب ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء﴾ فلنتوجه بقلوبنا إلى ربنا ، ولنرفع أيدينا به مستغيثين ، وله راجين ، ولفضله آملين ، وعليه متوكلين . ولنقدم بين  ذلك توبة نصوحاً ، و من الذنوب استغفاراً.

اللهم تُحي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد. اللهم اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيي بلدك الميت، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلته قوةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.

اللهم اكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين. اللهم ارحم الأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع، وارحم الخلائق أجمعين .

اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فإننا فقراء إليك، اللهم فارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وأغث قلوبنا وديارنا.... اللهم أغدق علينا من كرمك العميم، وأسبغ علينا من فضلك العظيم....  اللهم إنا نسألك البركة في أعمالنا وأعمارنا وأولادنا وبلادنا وأموالنا وأوقاتنا، وحروثنا وزروعنا.اللهم إنا خرجنا إليك من تحت البيوت والدور، وبعد انقطاع البهائم، وجدْب المراعي، راغبين في رحمتك، وراجين فضلَ نعمتك....  اللهم قد انصاحت جبالنا، واغبرَّت أرضنا، اللهم فارحم أنين الآنَّة، وحنين الحانة .