وصف أهل السنة وغربتهم

بسم الله الرحمن الرحيم

وصف أهل السنة وغربتهم

الحمد لله :

 عباد الله : لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى الإسلام ، لم يستجب له في بادئ الأمر إلا الواحد بعد الواحد ، وكان المستجيب له خائفاً من عشيرته وقبيلته ، يُؤذى غاية الأذى ، ويساء إليه بشتى أنواع الإساءة ، وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل .

وكان المسلمون إذ ذاك مُستضعفين ، يطردون ويشرَّدون كل مشرد ، ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية ، كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ، ثم هاجروا إلى المدينة ، وكان منهم من يُعذب ، وفيهم من يقتل! فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء. ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعز ، وصار أهله ظاهرين ، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجاً ، وأظهر الله لهم الدين ، وأتم عليهم النعمة.

 ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك ، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم ، وهم متعاضدون متناصرون ، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ثم أعمل الشيطان مكائده ، وألقى بينهم بأسه ، وأفشى فيهم فتنه ، فتنة الشهوات والشبهات ، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئاً فشيئاً ، حتى استحكمت مكيدة الشيطان ، وأطاعه أكثر الخلق ، فمنهم أطاعه في فتنة الشبهات ، ومنهم من أطاعه في فتنة الشهوات ، ومنهم من جمع بينهما ، وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه .

فأما فتنة الشبهات ، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في (4 أبي هريرة) : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة! كلها في النار إلا واحدة». قيل : من هي يا رسول الله ؟ قال : «من كان على ما أنا عليه وأصحابي» .

وأما فتنة الشهوات ، فقد قال عنها صلى الله عليه وسلم (م ابن عمرو) : «كيف أنتم إذا فُتحت عليكم خزائن فارس والروم ، أي قوم أنتم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : نقول كما ربنا . فقال صلى الله عليه وسلم : أو غير ذلك ! تتنافسون ، ثم تتحاسدون ، ثم تتدابرون ، ثم تتباغضون» .

وقال صلى الله عليه وسلم (خ عمرو بن عوف) : «والله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكن أخشى عليكم ، أن تبسط لكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم».

ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب ، بكى رضي الله عنه ، وقال : إن هذا لم يفتح على قوم إلا جُعِل بأسُهم بينهم .

عباد الله : ولما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنين أو إحداهما ، أصبحوا متقاطعين متباغضين ، بعد أن كانوا إخواناً متحابين متواصلين ، فإن فتنة الشهوات عمَّت غالب الخلق ، فافتتنوا بالدنيا وزخرفها ، وصارت غاية قصدهم ، لها يطلبون ، وبها يرضون ، ولها يعادون ، وعليها يوالون ، فقطعوا لذلك أرحامهم ، وسفكوا دماءهم ، واتبعوا أهواءهم ، وارتكبوا معاصي الله .

وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة ، فبسببها تفرَّق أهل القبلة ، وصاروا شيعاً وأحزابا ، وكفَّر بعضهم بعضاً ، بعد أن كانوا إخواناً ، قلوبهم على قلب رجل واحد ، فلم ينج من هذه الفرق إلا الفرقة الناجية ، وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم : «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» .

وهم يا عباد الله : في آخر الزمان الغرباء ، الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم : «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء» قيل : يا رسول الله ، ومن الغرباء ؟ قال : «النُّزاع من القبائل» وفي رواية «الذين يَصلحون إذا فسد الناس» وفي رواية «الذين يُصلحون ما أفسد الناس من سنتي» وفي رواية «الذين يفرون بدينهم من الفتن» وفي رواية «هم قوم صالحون قليل ، في قوم سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» وهكذا كان الداخلون إلى الإسلام في أول الأمر كذلك .

ولهذا جاءت أحاديث في مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان ، وأنه كالقابض على الجمر ، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم . قال الأوزاعي في قوله صلى الله عليه وسلم : «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ » قال : أما إنه ما يذهب الإسلام ، ولكن يذهب أهل السنة ، حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد . وقال يونس بن عبيد : ليس شيء أغرب من السنة ، وأغرب منها من يعرفها.

ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي رحمه الله : إني أدركت من الأزمنة زماناً ، عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ ، وعاد وصف الحق فيه غريباً كما بدأ . إن ترغب فيه إلى عالم ، وجدته مفتوناً بحب الدنيا ، يحب التعظيم والرئاسة ، وإن ترغب فيه إلى عابد ، وجدته جاهلاً في عبادته ، صريع إبليس عدوه ، قد صعد به إلى أعلى درجة العبادة ، وهو جاهل بأدناها ، فكيف له بأعلاها؟! وسائر ذلك من الرعاع قبيح أعوج ، وذئاب مختلعة ، وسباع ضارية ، وثعالب صائلة أ . هـ فهذا وصف أهل زمانه ، فكيف بما حدث في زماننا ، من الدواهي والعظائم ، التي لم تخطر بباله ، ولم تدر في خياله ؟!

علماء سوء: مشايخ شاشات ، فتاوى قنوات ، وأقوال منكرات ، ومناصب راقيات ، وشهادات عالميات . وعباد جهالات : عبادات باطلات ، وأفعال محدثات ، للشيطان فيها نزغات ، ولإخوانه صولات وجولات ، وشباب وشابات : دشوش وفضائيات ، وزنا ورباً وكبيرات ، إلانات للمجون والخلاعة ، والتفسخ والبذاءة ، أكلٌ للحرام ، وقطع للأرحام ، صد عن سبيل الله ، وغفلة عن مراقبة الله . إلا من رحم الله وقليل ما هم !!

عباد الله :روي عن الحسن رحمه الله أنه قال : سنتكم والله الذي لا إله إلا هو ، بين الغالي والجافي ، والمترف والجاهل ، فاصبروا عليها ، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس ، الذين لم يأخذوا من أهل الإتراف إترافهم ، ولا مع أهل البدع أهواءهم ، وصبروا على سنتهم ، حتى لقوا ربهم ، فكذلك إن شاء الله فكونوا . ثم قال : والله لو أن رجلاً أدرك هذه النُكُرات ، يقول هذا : هلم إليّ ، ويقول هذا : هلم إليّ ، فيقول : لا أريد إلا سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، يطلبها ويسأل عنها ، إن هذا ليقرض له أجر عظيم ، فكذلك إن شاء الله فكونوا .

الحمد لله :

عباد الله : يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الناس ثلاثة : عالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور السنة ، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق " أ .هـ

فالسنة تدل أهلها على المقصود الأعظم ، وهو معرفة الله تعالى ، فيحبونه ويخافونه ، حتى يسهل بذلك عليهم ، كل ما تعسّر على غيرهم ، ممن وقف مع الدنيا وزهرتها ، واغتر بها؛ فلذلك استلانوا ما استوعر منه المترفون ، فإن المترف الواقف مع شهوات الدنيا ولذاتها ، يصعب عليه تركها وشهواتها؛ لأنه لا عوض عنده عنها ، فهو لا يصبر على تركها .

ومن صفات أهل السنة : أنهم صحبوا الدنيا بأبدانهم ، وأرواحهم معلقة بالآخرة ، فلم يتخذوا الدنيا وطناً ، ولا رضوا بها إقامة ومسكناً ، وإنما اتخذوها ممراً ، ولم يجعلوها مستقرا . وجميع الكتب والرسل أوصت بذلك ، فقد أخبر الله تعالى عن مؤمن آل فرعون ، أنه قال لقومه : ﴿يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ﴾ ومن وصايا المسيح المروية عنه عليه السلام ، أنه قال لأصحابه : اعبروها ولا تعمروها . وعنه عليه السلام أنه قال : من الذي يبن على موج البحر داراً ؟! تلك الدنيا ، فلا تتخذوها قراراً . وقال صلى الله عليه وسلم لابن عمر : «كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل» . فالمؤمن يا عباد الله : في الدنيا ، كالغريب المجتاز ببلدة ، غير مستوطن فيها ، فهو يشتاق إلى أهل بلده ، وهمه الرجوع إليه ، والتزود بما يوصله إلى وطنه . قال الحسن : المؤمن في الدنيا كالغريب ، لا يجزع من ذلها ، ولا ينافس في عزها ، له شأن وللناس شأن .

فحيَّ على جنات عدن فـإنهـا  *** منازلك الأولى وفيـها المخيـم

لكننا سبي العدو فهـل تـرى  *** نعـود إلى أوطاننـا ونســلم

وقد زعموا أن الغريب إذا نـأى *** وشطّت به أوطانه فهـو مغـرم

وأي اغتراب فوق غربتنـا التي *** لها أضحت الأعداء فينـا تحكم

فأهل هذا الشأن هم الغرباء ، غربة أهل الصلاح بين الفساق ، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق ، وغربة العلماء بين أهل الجهل والشقاق ، وغربة أهل الآخرة بين أهل الدنيا ، الذين سُلبوا الخشية والإشفاق ، وغربة الزاهدين بين الراغبين في كل ما ينفد وليس بباق . وربما اجتمعت لصاحب السنة هذه الغربات كلها ، أو أكثرها ، فلا تسل عن غربته . قال الحسن في صفتهم : إذا نظر إليهم الجاهل ، حسبهم مرضى ، وما بالقوم مرض . ويقول : قد خولطوا ، وقد خالط القوم أمر عظيم ، هيهات والله ، مشغولون عن دنياكم . وفي (م سعد بن أبي وقاص) أنه صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله يحب العبد الخفي التقي» .

فهؤلاء عباد الله : هم أخص أهل الغربة ، وهم الفرارون بدينهم من الفتن ، وهم النزاع من القبائل ، وهم بين أهل الآخرة أعز من الكبريت الأحمر ، فكيف يكون حالهم بين أهل الدنيا؟!