نعمة بلوغ الشهر الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

نعمة بلوغ الشهر الكريم

الحمد لله :

عباد الله : تفكروا في عظم نعم الله عليكم ، وأجل تلك النعم وأعظمها : نعمة الإسلام ، فكم يعيش على هذه الأرض ، من أمم حُرمت شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ . ثم احمدوا الله على نعمة الهداية والتوفيق للسنة ، فكم ممن ينتسب إلى الإسلام ، وهم مخالفون لتعاليمه ظاهراً وباطنا ، مفرطون في الواجبات ، غارقون في الآثام والمخالفات ، وأنتم يا عباد الله : تتقلبون في نعم الله عز وجل ، أمن في الأوطان ، وسعة في الأرزاق ، وصحة في الأبدان ، فعليكم واجب الشكر بالقول والعمل .

وإن من نعم الله عليكم أن مدَّ في أعماركم ، وجعلكم تدركون هذا الشهر العظيم ، فكم غيَّب  الموت من صاحب ؟! وكم وارى الثرى من حبيب ؟!

عباد الله : هل رأيتم أو سمعتم أن المشتري يعطي البائع أكثر مما يطلبه !  إذا كنتم لم تروا أو تسمعوا  من يصنع ذلك ؛ فلتعلموا أن الله الغني الكريم ، البر الرحيم ، يقبل عمل العبد ، ويعطيه على الحسنة عشر أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ومن واسع كرمه سبحانه : أنه يكافئ من اتقاه  ، وأحسن المعاملة مع خلقه ، بدار لا يفنى نعيمها ، ولا ينغص عيشها ، بجنة ﴿عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ ومن رحمته سبحانه أنه حفظ أهل الاستقامة ، من خطر السقوط والخسارة ، وكتب لهم الأمن من كل المخاوف ، والسلامة من جميع المكاره ، في  الدنيا وفي الأخرى ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا﴾ .

واعلموا عباد الله : أنكم أدركتم موسماً عظيماً ربحه ، ولا يتيسر لتجَّار الآخرة في العام إلا مرة واحدة ، موسم من اتجر فيه مع مولاه الكريم ، كان ربحه أن يعتق رقبته من النار ، ويغفر له ما تقدم من الذنوب والآثام ، موسم من صدقت فيه نيته ، وطابت سريرته ، وتهذبت بالصيام نفسه ، وصان عن اللغو والفحش صيامه ، وكف عن الحرام فرجه وعينيه ،ولسانه وأذنيه ، فكان صابراً متواضعا ، تقياً وفيا ، صادقاً أمينا . على البؤساء عطوفا ، وبالضعفاء رحيما ، نال من الله جزيل الإحسان ، وجميل الرضوان .

فشمر يا عبد الله : في هذا الموسم عن ساعد الجد ، واجعل صالح الأعمال بضاعتك ، والتواضع شعارك ، والحلم واللين شيمتك ، والرأفة والرحمة حليتك ، فالسعيد من اتجر فيه بمرضاة المنان ، والشقي من خرج منه بالخيبة والخسران . فلا إله إلا الله !! ما أبعد ما بين الفريقين ؟ وشتان ما بين أولياء الرحمن ، وأولياء الشيطان ! هؤلاء في طاعة ربهم يتقلبون ، وأولئك عند مزامير الشيطان يلعبون . (ت) أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : «رغم أنف امرئ دخل عليه رمضان ثم انسلخ ولم يغفر له» .

عباد الله : إن تجار الدنيا لا يألون جهدا ، ولا يدخرون وسعا في اغتنام الفرص ، وسلوك السبل التي تدر عليهم الربح الكثير ، والمكسب الوفير ، فلماذا لا تتاجرون مع الله ؟ فتسابقون إلى الطاعات ، والأعمال الصالحات ، لتفوزوا بالربح الوفير ، والثواب الجزيل .

فرمضان من أعظم الفرص التي يجب أن يشمر لها المشمرون ، ويستعد لها  المتقون ، ولا يغفل عن اقتناصها المتيقظون ، فهو شهر مغفرة الذنوب ، والفوز بالجنة ، والعتق من النيران ، لمن سلم قلبه ، واستقامت جوارحه ، ولم يضيع وقته فيما يضره ولا ينفعه .

الخطبة الثانية :

الحمد لله الذي جعل لعباده مواسم يتقربون إليه فيها بأنواع الطاعات ، فيغفر لهم الذنوب ويرفع لهم الدرجات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، حكم فقدر ، وشرع فيسر ، ولا يزال يفيض على عباده من أنواع البر والبركات ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أول سابق إلى الخيرات صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يحافظون على الطاعات ، في جميع الأوقات ، ويخصون أوقات الفضائل بمزيد من القربات ، وسلم تسليما كثيرا     أما بعد :

عباد الله : إن المتأمل في واقعنا اليوم ، لا ينقضي عجبه من تفريط الناس في أوقاتهم ، وانهماكهم في ملذاتهم ، فلا الصحف تنتهي عن غيها ، ولا التلفاز يكف عن أذاه ، ولولا عكوف كثير من المسلمين عليها ؛ لما لاقت رواجاً ، حتى صار أهل الإعلام ، يُعِدون البرامج الجذابة ، التي تُعرض في أنفس الأوقات ؛ لا ينظرون إلى حكم شرع ، ولا يسعون لتهذيب الأخلاق ، ولا يسألون أهل الذكر . همهم إضحاك الناس ، وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة .

عباد الله : إنها لتُدْمَى القلوب ، وتَحِير العقول ، كيف يرضى عاقل بمتابعة المسلسلات المضحكة ، والبرامج الماجنة ، حتى في هذا الشهر الكريم ، الذي كان السلف الصالح رحمهم الله  يعتزلون فيه كتب العلم ، ويتفرغون للقرآن والصلاة ، فأين نحن من أولئك ؟!! وما الذي أزهدنا في رمضان ؟ أهو كثرة عباداتنا في غيره ، أم انشغالنا في الجهاد في سبيل الله ؟ ﴿أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ؟ ﴿نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ؟!

عباد الله : هاهو رمضان ينادي : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ،   فاغتنموا أيامه ولياليه ، دقائقه وثوانيه ، انتبهوا فقد لا يعود ، إلا وأنتم باللحود ، قد نهش وجوهكم الدود . 

هل عزمتم فيه على التوبة ؟ هل قررتم العودة والأوبة ؟ هل نويتم التخلص من جميع المعاصي والمنكرات ؟   

عباد الله :  صلى صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه ، فقيل له في ذلك ، فقال : «أفلا أكون عبداً شكورا» . وكان أبو بكر رضي الله عنه كثير البكاء في الصلاة ، وعند قراءة القرآن . وكان في خد عمر رضي الله عنه خطَّان أسودان من كثرة البكاء . وكان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة ؟

وكان علي رضي الله عنه يبكي في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع ، وكان يقول : يا دنيا غري غيري ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها !!

وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ، فإذا جاء رمضان ففي كل ثلاث ، فإذا دخلت العشر الأواخر ختم في كل ليلة . وكان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد ، فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة !

عباد الله : إذا ندمتم على ما فات ، وتركتم الذنوب والمخالفات ، توجَّبَ عليكم الاهتمام بأعماركم ، وإصلاح أوقاتكم ، فإنكم إن أضعتم رمضان ، خسرتم سعادتكم ونجاتكم ، وإن حفظتموه فزتم بالراحة واللذة والنعيم .