فضل العشر الأواخـر

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل العشر الأواخـر

فلقد اقتضت حكمة الله تعالى ، تخصيص بعض الأزمنة بالفضل على غيرها وتشريفها ، وجعلها مواسم للتجارة الرابحة مع الله سبحانه وتعالى ، تضاعف فيها الحسنات ، وتقال فيها العثرات ، فاختار سبحانه من الساعات الثلث الأخير من كل ليلة ، فيغفر للمستغفرين ، ويتجاوز عن المذنبين ، ويجيب الداعين ، ويعطي السائلين .

واختار من الأيام يوم الجمعة ، فجعله عيداً لأهل الإسلام ، فيه ساعة مباركة لا يوافقها عبد مسلم يدعوه ويسأله إلا أعطاه مسألته وغفر له ذنبه . واختار من الشهور شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . واختار من رمضان العشر الأواخر فخصها بليلة هي خير من ألف شهر , من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن حرم خيرها فهو المحروم .

عباد الله : هاهو شهر رمضان ، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن ، شهر الصدقة والجود والإحسان ، تصر مت أيامه ، وانقضت أكثر لياليه ، وكأنها أضغاث أحلام وأطياف سراب ، مضى أكثر ه ولم يبق منه إلا القليل .

فيا من فرط فيما مضى من الشهر ، تب إلى الله وارجع إليه مقبلا خائفاً ، تائباً خاشعا ًوجِدَّ في طاعته فإن العمر قصير ، والسفر طويل ، والزاد قليل .

ويا من أحسن فيما مضى داوم على طاعة الله تعالى وتزود من الصالحات

فلقد كثرت أسباب المغفرة في رمضان من صيام وصدقة وقيام ، واستغفار وتوبة وتلاوة للقران ، فيا عجبا من حال أقوام تمر عليهم هذه الليالي وهم في غفلة عنها ، لا يقدرون لها قدرا ، ولا يعرفون لها وزنا ، فالمحروم حقا من فاتته المغفرة والرضوان في هذه الأيام . صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال : «إن جبريل أتاني فقال : من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين ، فقلت : آمين» .

عباد الله :

لقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يخلط أول ليالي رمضان وأوسطها ، بالنوم والقيام ، فإذا دخلت العشر الأواخر عكف على العبادة ، وطوى فراشه ، واعتزل نساءه ، فإذا كانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكيف بالعصاة الذين تلوثوا بالذنوب ، وتدنسوا بالآثام ، بل كيف بالذين يبيتون على المحرمات والمنكرات ، عن ربهم غافلون ، وعلى المعصية مصرون ، ومن مكر الله آمنون ، وهل يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ؟ ليلهم ونهارهم في سبات وغفلة ، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، لا بعبادة يتلذذون ، ولا بذكر يشتغلون ، ولا بالحق يتواصون .

عباد الله : دونكم عشر رمضان الأخيرة ، فيها الخيرات والأجور الكثيرة ، فيها الفضائل المشهورة ، والخصائص العظيمة . فمن خصائصها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها ، دل على ذلك ما رواه مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره . وهذا شامل للاجتهاد في جميع أنواع العبادة من صلاة وقراءة للقران وذكر ودعاء وصدقة وغير ذلك .

ومن الأعمال التي تشرع في هذه العشر الاعتكاف : ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى»، وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام . فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين» . وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التي يطلب فيها ليلة القدر ، قطعا لأشغاله ، وتفريغاً لباله ، وخلوة لمناجاة ربه وذكره ودعائه . فلا يخالط الناس ولا يشتغل بهم . ومما يلاحظ أن هذه السنة قد رغب عنها كثير من الناس اليوم ، وقل عملهم بها - إلا من رحم الله - ، وما ذاك إلا لقصور الهمم ، والانشغال بملذات الحياة الدنيا وزخارفها ، فإلى الله المشتكى .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله : اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده : "أن شرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه : عكوف القلب على الله تعالى ، والخلوة به ، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق ، والاشتغال به وحده سبحانه ، فيصير أنسه بالله بدلاً من أنسه بالخلق ، فبُعْدُه بذلك – أي بالاعتكاف – لأنسه يوم الوحشة في القبور ، حين لا أنيس له ، ولا يفرح به سواه ، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم " أ . هـ

فاحرصوا عباد الله : على إحياء هذه السنة العظيمة ، وإحياء قلوبكم بدوام الطاعة ، وفرغوا من شهور السنة أياماً معدودة ؛ للتزود والتفكر ، جعلنا الله

الخطبة الثانية

فيا عباد الله :

اتقوا الله تبارك وتعالى حق التقوى ، وتزودوا من الأعمال الصالحة للأخرى ، وتأهبوا ليوم العرض الأكبر على الله ، وتذكروا حق الله تعالى عليكم ؛ فحقه أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر .

عباد الله :

إن مما اختص الله تعالى به عشر رمضان الأخيرة أن جعل فيها ليلة وصفها بأنها مباركة ؛ لكثرة خيرها وبركتها قال سبحانه ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ .

والتي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» وفي المسند عن عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من قامها ابتغاءها ، ثم وقعت له ، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» وفي المسند والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شهر رمضان : «فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم» .

قال جويبر : قلت للضحاك : أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنائم لهم في ليلة القدر نصيب ؟ قال : نعم ، وكل من تقبل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر. فعلى المسلم أن يتحراها في هذه العشر .

لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال صلى الله عليه وسلم «التمسوها في العشر الأواخر يعني ليلة القدر - فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي».

ويستحب الدعاء فيها والإكثار من الاستغفار والطاعة قالت عائشة - رضي الله عنها : - يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها . قال : «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» .

يا من أعطاه الله صحة وعافية بعد العشرين ، يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين ، يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر سنين حتى بلغ الخمسين ، يا من هو في معترك المنايا بين الستين والسبعين ، ما تنتظر إلا أن يأتيك اليقين ، يا من ذنوبه بعدد التراب ، أما تستحي من الكرام الكاتبين ، فتعود إلى رشدك وتصدق مع ربك ، لعلك تفوز يوم الدين .

إلهنا أنت ملاذنا إذا ضاقت الحيل ، وملجؤنا إذا انقطع منا الأمل ، فاغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا وأقر أعيننا بصلاح ذرياتنا و أعمالنا ، ولا تؤاخذنا بما كسبت قلوبنا ، وجنته جوارحنا ، وتوفنا وأنت راض عنا . اللهم طهر قلوبنا من النفاق ، وأعمالنا من الرياء و ألسنتنا من الكذب ، وأعيننا من الخيانة ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين .