غض البصر

بسم الله الرحمن الرحيم

غض البصر

الحمد لله

أيها المسلمون: إن للذنوب والمعاصي آثارا سيئة، وعقوبات في الدنيا والآخرة، قال ابن القيم – رحمه الله – إن المعاصي توهن القلب والبدن، وتسبب محق البركات ، ونقص الخيرات ، في العلم والعمل والمال والأهل، قال ابن مسعود رضي الله عنه إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان تعلمه للخطيئة يعملها . كما أن الذنوب تورث الذلة على صاحبها، قال سليمان التيمي – رحمه الله : إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته . ومن ذلك أنها تسبب حلول النقم وزوال النعم . والتهاون بالمعاصي موجب لسخط الله تعالى، ولو لم يكن في ترك المعصية إلا حصول العافية، ومحبة الله تعالى، لكان جديرا بالمؤمن والمؤمنة أن يفرح بترك المعاصي .

عباد الله : البصر من أجل نعم الله سبحانه وتعالى على عباده التي أمرهم بحفظها ، وشكره عليها ، والتفكر من خلالها ، في بديع صنع الله في ملكوت السماوات والأرض ، وعجيب خلقه ، وعظيم قدرته ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ . والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأقرب طرق الحواس إليه، وما أكثر السقوط من جهته، ولذلك وجب غضه عن جميع المحرمات .

غض البصر مرتبة عظمى ، لا يستطيع تحقيقها ، والوقوف عند حدودها ، إلا من وفقه الله تعالى وسدده ، وثبته على دينه وطاعته . قال ابن مسعود – رضي الله عنه حفظ البصر أشد من حفظ اللسان ، وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع .

يأمر الله أتباعه المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، قال تعالى: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ...﴾ وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إياكم والجلوس في الطرقات» قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا نتحدث فيها. قال: «فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه» . قالوا : وما حقه ؟ قال : «غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر».

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع» وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف وجهي وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة»

عباد الله : غض البصر زكاة للقلب ، وطهارة للنفس ، وراحة للبدن ، وصون للفرج ، وتجنب للوقوع في الزلل والمعصية ، يورث حلاوة الإيمان ، وفراسة صادقة ، وثباتاً في النفس ، ونوراً في القلب . قال بعض السلف : (من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته) .

أيها المسلمون: من الأمور التي يتساهل بها بعض الناس ، النظر إلى النساء الأجنبيات ، سواء عن طريق مباشر ، أو عن طريق الصور في المجلات و الجرائد و الأفلام . وكذلك الخلوة بالمردان، وذلك أنه مظنة الفتنة، ولقد بالغ الصالحون ، في الإعراض عن المردان ، وعن النظر إليهم ، وعن مخاطبتهم ومجالستهم . جاء رجل إلى الإمام أحمد – رحمه الله – ومعه صبي – حسن الوجه، فقال من هذا منك؟ قال: ابن أختي، قال: لا تجئ به إلينا مرة أخرى . وقال سعيد بن المسيب رحمه الله إذا رأيتم الرجل يحد النظر إلى الغلام الأمرد فاتهموه.

نعم – عباد الله – النظر سهم من سهام إبليس المسمومة ، وحبائله الموبوءة ، التي أهلك بها العباد ، وصرف بها الناس عن طريق الاستقامة والفلاح ، وأوقعهم في الرذائل والموبقات والآفات ، فالنظر إلى المحرمات هو مبدأ المعصية ، وبريد الزنى .

كل الحوادث مبدأها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتكت السهم بلا قوس ولا وتر

فاللهم طهر قلوبنا من النفاق .........

الخطبة الثانية

سئل الإمام أحمد – رحمه الله – عن رجل قال بأنه ترك المعاصي وتاب وقال: لو ضرب بالسياط ما دخل في معصية أبدا ، غير أنه لا يدع النظر، فقال :أي توبة هذه؟. و قيل لبعض السلف: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك ، أسبق من نظرك إلى من نظرت إليه، و يقول الربيع: "إذا تكلمت فاذكر سمع الله لك, وإذا هممت فاذكر علم الله بك, وإذا نظرت فاذكر نظره إليك, وإذا تفكرت فانظر إطلاعه عليك, فإن الله يقول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾. ولقد كان - رحمه الله – من شدة غضه لبصره وإطراقه يظن أنه أعمى .

عباد الله : إن إطلاق البصر من أهم أسباب شيوع الفاحشة في المجتمعات ، فإنه يحرك الشهوة الكامنة في القلب ، حتى تعتصره الحسرات على الظفر بما يريد . ولقد كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يكرهون فضول النظر . قال الإمام وكيع : خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد ، فقال : إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض أبصارنا .

فاتقوا الله عباد الله ، واحذروا من سخطه وأليم عقابه ، ثم اعلموا رحمكم الله ، أن تخلية البصر ، وإطلاقه من قيد الخوف والمراقبة ، حتى يقع على كل ما يراه ، فلا يرعوي عن حرام ، ولا يقف عند حد . سبب لفساد القلب والخلق ، وقائد إلى الإثم و العدوان ، فكم جرح النظر من قلب ، وأوقع في غفلة ، وأشعل نار فتنة ، ورب نظرة زرعت شهوة ساعة ، أورثت حزناً طويلاً ، وخسارة أبدية .

فيا من أنعم الله عليكم بنعمة البصر ، ثم تطلقونه في النظر إلى المحرمات ، من نساء كاسيات عاريات ، في مجلات خليعات ، وأفلام فاضحات ، وقنوات فاسدات ، تقلبون الموجات ، وتتنقلون بين الصفحات ، وتتخيرون المواقع ،تزعمون أنكم عن الأخبار تبحثون ، وعلى أوضاع المسلمين تتحسرون ، وللفراغ تقتلون ، لكنكم في الحقيقة ، بالنظر إلى النساء تتلذذون، و خطوات الشيطان تتبعون.

أهكذا تشكر نعمة الله ؟! أما يخشى الذين يصرون على اتباع الشهوات ، والنظر إلى المحرمات ، من عقوبة الله تعالى وانتقامه ؟! أما يخشون من العمى ، وطمس البصر والبصيرة ؟!

ألا فاتقوا الله تبارك وتعالى وغضوا أبصاركم ، واحفظوا فروجكم ، واشكروا الله على عظيم نعمه ، وترادف مننه ، وتذكروا لو أنكم ممن حرمها ، فما عساكم فاعلين ، فافعلوا الساعة ، ولات ساعة مندم.