ظلم العمَّال ، والواجب تجاههم

بسم الله الرحمن الرحيم

ظلم العمَّال ، والواجب تجاههم

الحمد لله :

 عباد الله : اشتكى أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص عند عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، فعزله عمر ، وولّى عليهم عمار بن ياسر رضي الله عنه ، ثم أرسل عمر إلى الكوفة رجالاً يسألونهم عن سيرة سعد , فسألوا أهل الكوفة مسجداً مسجداً ، كلهم يثنون خيراً على سعد ، حتى دخلوا مسجداً لبني عبس ، فقام رجل منهم يقال له : أسامة بن قتادة ، فقال : أمَّا إذ أنشدتنا عن سعد ؟ فإن سعداً كان لا يسير بالسرية ، ولا يقسم بالسوية ، ولا يعدل في القضية . عندها قال سعد رضي الله عنه : أما والله لأدعون بثلاث : اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً ، قام رياءً وسمعة : فأطل عمره ، وأطل فقره ، وعرّضه للفتن .

 قال عبد الملك بن عمير : فلقد رأيت ذلك الرجل قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر ، وإنه ليتعرض للجواري في الطرقات يغمزهن ، وكان إذا سئل يقول : شيخٌ كبيرٌ مفتون ؛ أصابتني دعوة سعد " خرجه البخاري .

فلا إله إلا الله : كم من دعوة مظلوم ، قد سلبت غنياً ماله ؟! ولا إله إلا الله ، كم من دعوة مظلوم ، قد فرَّقت بين المرء وزوجه ؟! ولا إله إلا الله ، كم من دعوة مظلوم ، قد أفسدت جماعات ، وهدّ مت لذات ؟! ولا عجب ! فقد قال نبيكم صلى الله عليه وسلم كما في (خ ، م) : «اتق دعوة المظلوم ؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» .

 عباد الله : إن من سنن الله جل وعلا ، أن جعل حياة الناس لا تستقيم ، إلا بأن يتعاونوا ويتكاملوا ، فكل منهم محتاج إلى الآخر في معاشه ، ولا يمكن أن يستقل بنفسه في تسيير أمره . قال جل وعلا : ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً﴾ ففاوت سبحانه بينهم في أسباب العيش ، وغاير بين منازلهم ، فجعل منهم أقوياء وضعفاء ، وأغنياء وفقراء ، وموالي وخدما ؛ ليصرِّف بعضهم بعضاً في حوائجهم ، ويستخدموهم في مهنهم ، ويسخروهم في أشغالهم ؛ حتى يتعايشوا ويترافدوا ، ويصلوا إلى منافعهم ، فالغني محتاج إلى الفقير ، والصغير يفتقر إلى الكبير . حكمة منه سبحانه . ولو تساوى الناس في أحوالهم ، ولم يحتج بعضهم إلى بعض ؛ لتعطلت مصالحهم ومنافعهم .

 عباد الله : لقد كان آباؤنا إلى وقت قريب ، يرحلون إلى الأقطار ، يجوبون الفيافي والقِفار ، طلباً للرزق والمعيشة ، ثم أبدل الله جل وعلا ، حالهم من الفقر إلى الغنى ، ومن الضيق إلى السعة ، ومن الخوف إلى الأمن . حتى أصبحت بلادنا يفد إليها الكثير من الناس ؛ لطلب المعيشة . فسبحان مغير الأحوال .

وإن هذه الوفود ، من عمال وخدم ، قد تركوا أوطانهم وأولادهم ، وقد يغيب الواحد منهم عن أهله سنوات عديدة ، بل قد يترك بعضهم أولاده أطفالاً ، ثم يعود إليهم وقد بلغوا الرشد ؛ وما ذاك إلا لإعفاف أنفسهم وذويهم ، بالكسب الحلال .

 ولكن المؤسف يا عباد الله : أن كثيراً من الناس هداهم الله ، لم يدركوا حكمة الله في ذلك ، فأساءوا معاملتهم ، وأهملوا حقوقهم ، وظلموا أنفسهم ، ولذلك صور شتى :

منها : أن البعض يعاملهم معاملة سيئة ، لا رحمة فيها ولا هوادة ، فلا يخاطبهم إلا برفع صوت ، ولا ينظر إليهم إلا بازدراء ، ولا يناديهم إلا بانتقاص ، فأينه من قول أنس : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله ، هلا فعلته .

ومنها : تكليفهم فوق طاقتهم ، فتجد المسكين كالآلة ، تدور صباح مساء . وقد قال صلى الله عليه وسلم (خ م) : «إخوانكم خَوَلكم -أي خدمكم-، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده : فليطعمه من طعامه ، وليلبسه من لباسه ، ولا يكلفه ما يغلبه ، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه» .

ومنها : تأخير رواتبهم ، أو مماطلتهم بها ، فتجد المسكين ، يتذلل لكفيله ، ويكرر في طلب حقه ، بل قد تسبق دمعته كلمته . فأي قلب يحمل ذلك الكفيل بين جنبيه ؟! ألم يعلم بقول نبيه صلى الله عليه وسلم : «أعطوا الأجير أجره ، قبل أن يجفَّ عرقه» .

وكل ذلك عباد الله : من الظلم الذي حرمه الله حتى على نفسه ، كما في الحديث القدسي الذي خرجه مسلم من حديث أبي ذر «يا عبادي : إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا» ، وقال صلى الله عليه وسلم كما في البخاري و مسلم : «المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله» . فالظلم محرم بجميع أنواعه ، وهذا النوع من الظلم ، لا يترك الله منه شيئاً إلا اقتصه لصاحبه ، في يوم أحوج ما يكون فيه العبد إلى حسنة واحدة ، حتى إذا فنيت حسناته ، أُخِذ من سيئات مظاليمه ، وطرحت عليه ، فيدم ولا حين مندم ، ولا يهلك على الله سبحانه إلا هالك .

فلنتق الله عباد الله في عمّالنا وأجرائنا ، ولنعنهم على الكسب الحلال ، ولا نلجئهم إلى المحرمات ، بل نشجعهم على هذه المهن ، التي اختاروا سلوكها ، فمهنهم من أطيب المهن ، وكسبهم من أطيب كسب .

الخطبة الثانية :

عباد الله : وإن تعجبوا ، فعجبٌ مما كان عليه الرعيل الأول ، من سلفنا الصالح ، ومن سار على نهجهم ، في الدعوة إلى الله تعالى ، على ضعف الوسائل والإمكانيات . ومع ذلك كله ، لم تضعف هممهم ، ولم تُفت عزائمهم ، بل ساحوا في الأرض ، يجوبون أقطارها ، ويقطعون فيافيها وسهولها ؛ لنشر دين الله تعالى .

 ثم ارجع البصر إلى حال كثير من الناس اليوم ، انقلب رأساً على عقب ! يفد إليهم في بلدهم العديد من العمالة غير المسلمة ، في بيوتهم ومتاجرهم ، ومن كان منهم مسلماً ، فهو بحاجة إلى إصلاح عقيدته ، وتقويم سلوكه . فلا يحركون ساكناً ، ولا يخطر لهم على بال . فيرجع المساكين كما جاءوا ، والأدهى من ذلك والأمرّ ، أن يرجع بعضهم وقد ازداد بغضه للإسلام وأهله ؛ مما سمع ورأى من سوء المعاملة ، وقبح الأخلاق عند بعض المسلمين . فقل لي بربك : كم جنى هذا الكفيل على مكفوله ، الذي ازداد شره بسببه ، ونفَّره عن الإسلام ، بعد أن كان قاب قوسين منه أو أدنى .

 ومن العجب ،أن ترى البعض منا ، يشفق ويعطف على مكفوله من غير المسلمين ، فتجده لا يبخل عليه ، بشيء من اللباس والطعام والشراب ، ولكنه يهمل جانب دعوته إلى الإسلام ، وحاجتُه إليه أشد وأولى . قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : "والناس بحاجة إلى ما جاءت به الرسل ، أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب" أ . هـ

 عباد الله : يجب على كل من ابتلي بخادمة أو سائق أو عامل ، سواء كان من المسلمين ، أو من غيرهم ، أن يبذل وسعه في سبيل هدايتهم إلى الإسلام ، وإصلاح عقائدهم وسلوكهم «فوالله ، لأن يهدي الله بك رجلاً واحدا ، خير لك من حمر النعم» ودونكم مكاتب الجاليات ، مشرعة أبوابها ، فيها الكتب والرسائل ، والأشرطة والمترجمون ، متسعة صدور أصحابها ، لا يألون جهداً في فعل مساعدة ، أو بذل نصيحة . ولئن كان البعض لا يدرك مدى تأثير ذلك في نفوس عمالهم ، فلا أقل من براءة الذمة ، و ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾. فاتقوا الله عباد الله : فيمن تحت أيديكم من العمال ، واعلموا ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ ، وأنه سبحانه يمهل ولا يهمل ، وأن الأيام دول ، فيوم لكم وآخر عليكم ، فأعطوا كل ذي حق حقه ، وأقلعوا عن ظلم العباد ، وعن التعدي على حقوقهم .