توبة كعب بن مالك

بسم الله الرحمن الرحيم

توبة كعب بن مالك

إن في الحوادث لعبرا ، وإن في التاريخ لقصصاً ، قصةٌ من قصص المصطفى صلى الله عليه وسلم ، موقف صدق من مواقف الصحب البررة. قلم الكاتب ، ولسان الخطيب ، عاجزان عن وصف تلك الحادثة ، في محنتها وابتلاءاتها، في صدق رجالها، وإيمان أصحابها. فيها ابتلاء هجر الأقربين، وبلاء تزلف المناوئين. قصةٌ كلها عبرٌ وعبرات ، مواقف الصدق والصبر في صحب محمد صلى الله عليه وسلم مثال في الإخلاص و الطاعة، والقدوة في الصبر على البلاء، والشكر على السراء. إنها قصة الثلاثة الذين خلِّفوا في غزوة تبوك ، آياتٌ وأحداثٌ تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب . كان الإمام أحمد رحمه الله لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات .

أيها المسلمون: استنفرَ النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لملاقاة بني الأصفر ، حين بلغه إعدادهم للعدوان على أهل الإسلام ، فكان التهيؤ في أيامٍ قائظةٍ، وظروفٍ قاسيةٍ، في جهدٍ مضنٍ، ونفقاتٍ باهظةٍ. إنه جيش العسرة، وإنها لغزوة العسرة.

وصفها في كتاب الله استغرق آياتٍ طوالاً ،في أنباء الطائعين والمثبِّطين، والمخلصين والقاعدين. يجيء المعذرون ليؤذن لهم، ويتولَّى البكاؤون بفيض دموعهم حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.

يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة. والله ما جمعت قبلها راحلتين قط ، حتى جمعتهما في تلك الغزوة. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم ،ليتأهبُّوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثيرٌ ، فقلَّ رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظنَّ أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصْعَرُ – أي أميل وأرغب – فتجهزَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه ، فأرجع ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم فياليتي فعلت . ويأخذ الندم من كعب مأخذه، وتبلغ المحاسبة مبلغها،فتراه يقول: فطفقت إذا خرجت في الناس ، بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحزنني أني لا أرى لي أسوةً ، إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلاً ممن عذر الله تعالى من الضعفاء . فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك ، حضرني بَثِّي – أي شدة الحزن – فطفقت أتذكر الكذب ، وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي . فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلَّ قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لم أنجُ منه بشيءٍ أبداً فأجمعت صدقه ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه المخلفون بأعذارهم فقبل منهم، ووكل سرائرهم إلى الله. قال كعبٌ: حتى جئت فلما سلمت تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المغضب، ثم قال: تعالَ ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: «ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهراً» أي اشتريت مركوباً قال: قلت: يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا ، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت ، لئن حدثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني ، ليوشكنَّ الله يُسخطك عليَّ، وإن حدثتك حديث صدقٍ تجدُ عليَّ فيه ، إني لأرجو فيه عقبى الله عزَّ وجلَّ . والله ما كان لي من عذرٍ، والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك» . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا فاجتنبَنا الناسُ ، حتى تنكَّرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي أعرف. فأما صاحباي وهما : مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلَدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، فأقول في نفسي ، هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، وإذا التفت نحوه أعرض عني ، حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين ، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك بالله ، هل تعلمني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟ فسكت ، فأعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي . ويشتد البلاء فإذا بنبطي من نبط الشام ، يحمل كتاباً من ملك غسان ، يعرض عليه الإقامة عندهم . ولا يزال البلاء به رضي الله عنه حتى جاءه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره باعتزال امرأته.

الخطبة الثانية

وبعد خمسين ليلة من الهجر والمقاطعة، يقول كعب: فبينا أنا جالسٌ على الحال التي ذكر الله تعالى منا، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجداً، وعرفت أنه قد جاء فرج، وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتلقاني الناس فوجاً فوجاً ، يهنئونني بالتوبة ويقولون : لتهنك توبة الله عليك، فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مرَّ عليك مذ ولدتك أمُّك» فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا بل من عند الله عزَّ وجلَّ» .

عباد الله : من هذه القصة نستخلص بعضاً من الدروس ، ونقف هذه الوقفات : فمن ذلك : تفقد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومنها : مغبة التسويف و عدم المبادرة لفعل الطاعات ، كما يحصل في هذه الأيام من تأخير بعضهم لصيام الست من شوال ، ومنها: مشروعية الندم على فعل المعصية ، ومنها : أن الصدق منجاة ، والكذب مهلكة ، ومنها : مشروعية التأسي بأهل الخير والصلاح ، ومنها : شؤم المعصية وما تسببه من البلايا والفتن، ومنها: تحين الكفار للفرص لإغواء المسلمين، ومنها : مشروعية الثبات على الحق مهما عظمت الخطوب، ومنها : الطواعية لله ورسوله، وتقديم مرادهما على مراد النفس، ومنها : مشروعية سجود الشكر، ومنها : أن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، ومنها : أن التوبة تجب ما قبلها، ومنها : ضرورة الاستفادة من المحن ، ومن ذلك : مشروعية الذب عن عرض المسلم، ومنها : مشروعية المبادرة بالركعتين في المسجد بعد العودة من السفر، ومنها: مشروعية الاستشارة، ومنها : مشروعية البشارة ومكافأة حاملها، ومنها : مشروعية التهنئة على الأمر السار، ومنها: مشروعية الهجر لمصلحة شرعية .