تسلية أهل المصائب

بسم الله الرحمن الرحيم

تسلية أهل المصائب

الحمد لله المنفرد بالقهر و البقاء  ، ذي الطول والعطاء ، الذي لا ند له فيبارى ، ولا معارض له فيمارى ، ولا شريك له فيدارى ، كتب الفناء على أهل هذه الدار ، وجعل عقبى الذين اتقوا الجنة ، وعقبى الكافرين النار . قدر مقادير الخلائق وأقسامها ، وبعث أمراضها وأسقامها ، وجعل للذين أحسنوا الدرجات ، وللذين أساؤا الدركات ، أحمده سبحانه على حلو القضاء ومره ، وأعوذ به من سطوته ومكره . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إلها لم يزل عظيماً علياً ، جباراً  قوياً ، جل عن الشبيه والنظير ، وتعالى عن الشريك والظهير ، وتقدس عن التعطيل ، وتنزه عن التمثيل . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله رحمة للعباد ، ونعمة على البلاد ، فدعا الناس إلى الجنة ، وأرشدهم إلى اتباع السنة ، وجعل أعلاهم منزلة أعظمهم صبراً ، فمن استرجع في مصيبته واحتسبها ذخراً ، كان له منزلة عالية وقدراً ، وكان مقتفياً هدياً ، ومتبعاً أثراً، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً..

أما بعد :

عباد الله : لقد قدر الله مقادير الخلائق وآجالهم ، وكتب آثارهم وأعمالهم ، وقسم بينهم معايشهم وأموالهم ، وخلق الموت والحياة ؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملا ، وما في الأرض من حركة ولا سكون ، إلا بمشيئتة وإرادته ، وما في الكون كائن إلا بتقديره وإيجاده ، والدنيا طافحة بالأنكاد والأكدار ، مطبوعة على المشاق والأهوال ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ والعوارض محن يتبين بها الصادق من الكاذب ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ﴾  يقول ابن الجوزي رحمه الله : من أراد أن تدوم له السلامة والعافية من غير بلاء ، فما عرف التكليف ، ولا أدرك التسليم ، ولا بد من حصول الألم لكل نفس ، سواء آمنت أم كفرت أ.هـ والحياة مبنية على المشاق وركوب الأخطار  .

 والمرء يتقلب في تحول النعم ، واستقبال المحن .  والكل حتماً يتجرع مرارة الابتلاء ، ولكن ما بين مستقل ومستكثر . والمؤمن يبتلى ليهذب لا ليعذب ، فتن في السراء ، ومحن في الضراء ﴿وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ والمكروه قد يأتي بالمحبوب ، والمرغوب قد يأتي بالمكروه ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ .

فوطن نفسك على المصائب قبل وقوعها ؛ ليهن عليك وقعها ، ولا تجزع بالمصاب ، فللبلايا أمد ، ولا تسخط بالمقال ، فرب كلمة جرى بها اللسان ، هلك بها الإنسان ، والمؤمن الحازم يثبت للعظائم ولا يتغير فؤاده ، ولا ينطق بالشكوى لسانه ، وخفف المُصاب على نفسك بوعد الأجر، وتسهيل الأمر ؛ لتذهب المحن بلا شكوى ، فما هلك الهالكون إلا من نفاد الجلد ، والصابرون مجزيون بخير الثواب ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وأجورهم مضاعفة ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ .

أيها المبتلى : اعلم أن ربك الكريم ما منعك إلا ليعطيك ، ولا ابتلاك إلا ليعافيك ، ولا امتحنك إلا ليصطفيك . يبتلي بالنعم ، وينعم بالبلايا ، فلا تضيع زمانك بهمك بما ضمن لك من الرزق ، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتيا ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَ﴾ وإذا أغلق عليك بحكمته طريقا ، فتح لك برحمته طرقا .

عباد الله : بالابتلاء يرفع شأن الصالحين ، ويعظم أجرهم ، خرج البخاري عن سعد بن أبي وقاص قال : قلت يا رسول الله : أي الناس أشد بلاء ؟ قال : «الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينة رقة خفف عنه ، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة» .

وطريق الابتلاء معبر شاق ، سلكه آدم ، ورمي في النار الخليل ، وأضجع للذبح إسماعيل ، وألقي في بطن الحوت يونس ، وقاسا الضر أيوب ، وبيع بثمن بخس يوسف ، وألقي في الجب إفكاً ، وفي السجن ظلماً ، وعالج أنواع الأذى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنت يا عبد الله على سنة الله في خلقه سائر ، والدنيا لم تصف لأحد ، ولو نال منها ما عساه أن ينال . والمصيبة حقا إنما هي المصيبة في الدين ، وما سواها من المصائب عافية ؛ فيها رفع الدرجات ، وحط السيئات ، والمصاب من حُرم الثواب ، فلا تأس على ما فاتك من الدنيا ؛ فنوازلها أحداث ، وأحاديثها غموم ، وطوارقها هموم ، الناس معذبون فيها على قدر همِهم بها ، الفَرِح بها هو المحزون عليه ، آلامها متولدة من لذاتها ، وأحزانها من أفراحها . يعقوب عليه السلام لما فقد ولداً وطال عليه الأمد ، لم ييأس من الفرج ، ولما أُخذ ولده الآخر لم ينقطع أمله من الواحد الأحد ، بل قال ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً﴾ وربنا وحده له الحمد ، وإليه المشتكى ، فلا ترجو إلا إياه في رفع مصيبتك ودفع بليتك ، وإذا تكالبت عليك الأيام ، وأغلقت في وجهك المسالك ، وإذا ليلة اختلط ظلامها ، وأرخى الليل سربال سترها ، قلب وجهك في ظلمات الليل في السماء ، وارفع أكف الضراعة ، وناد الكريم أن يفرج كربك ، ويسهل أمرك ، وإذا قوي الرجاء ، وجُمع القلب في الدعاء لم يردَ النداء ﴿أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ ومن فوض أمره إلى مولاه حاز مناه .

الحمد لله :

عباد الله : إن العبد المؤمن ما دام في دار التكليف ، والأقلام جارية عليه ، فلا بد له من حلول المصائب ، وهو لا يستغني عن الصبر في جميع أحواله ؛ فإنه بين أمرٍ يجب امتثاله ، وبين نهيٍ يجب اجتنابه ، وبين نقمة يجب احتسابها ، وبين نعمة يجب شكرها ، وإذا كانت هذه أحواله فالصبر لازم له حتى الممات .

قال بعض السلف : لولا مصائب الدنيا ؛ لوردنا القيامة مفاليس .

عباد الله : ولما كانت المصائب ، على اختلاف أنواعها ، خطب مؤلم موجع ، وأمر مهول مفزع ، وردت الآيات والأحاديث والآثار ، بما لمن أصيب بها من المقامات ، المحتسب الصابر عليها ببشارة الجنات ، لتكون مُسَلِياً لقلوب المحزونين ، ومُفَرِجاً لِكُرَب الملذوعين .

قال تعالى : ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ قال علقمة : هي المصائب تصيب الرجل ، فيعلم أنها من عند الله ؛ فيرضى ويسلم .

وقال صلى الله عليه وسلم : «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها ، إلا آجره الله في مصيبته ، وأخلف  له خيراً منها» وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم : «ما يصيب المؤمن من وَصَب ٍولا سقم ولا حزن حتى الهم يَهُمُه ، إلا كفر الله به من سيئاته» وفي حديث عائشة «حتى الشوكة يشاكها» .

فالزمان لا يثبت على حال ، والسعيد من لازم التقوى ، إن استغنى زانته ، وإن افتقر أغنته ، وإن ابتلي جملته ، فلازم التقوى في كل أحوالك ، فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة ، ولا في المرض إلا العافية ، ولا في الفقر إلا الغنى ، قال شريح رحمه الله : ما أصيب عبد بمصيبة إلا كان له فيها ثلاث نعم : أنها لم تكن في دينه ، وأنها لم تكن أعظم مما كانت ، وأنها لابد كائنة وقد كانت .

فاللهم فرج هم المهمومين ، ونفس كرب المكروبين ، واكشف غم المغمومين ، واجبر كسر المنكسرين ، واقض الدين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين ، اللهم اجرنا في مصائبنا ، واخلف لنا خيراً منها يا رب العالمين .