تأمـلات بعد رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

تأمـلات بعد رمضان

 الحمد لله :

عباد الله : مضى شهر رمضان ، شهر الرحمة والغفران ، شهر الفضل والإحسان . ما أحلى تلاوة القرآن فيه ، وما أجمل الصدقة في أيامه . يبكي الصالحون لفراقه ، ويأسى القانتون لانقضائه ، ويحزن المستغفرون لرحيله . فواحسرتاه وواأسفاه على ذهاب تلك الليالي العظام . فآه ثم آه على تضييع مثل تلك الأيام . ويا ليت شعري ! من المقبول منا فنهنيه ، ومن المحروم منا فنعزيه . ولا عجب أن تستهل العبرات ، وتشتد الحسرات أسفاً على تلك اللحظات .

قال العلامة ابن رجب رحمه الله : "هذه الشهور والأعوام ، والليالي والأيام ، مقادير الآجال ومواقيت الأعمال ، ثم تنقضي سريعاً ، وتمضي جميعاً ، والذي أوجدها وأبدعها ، وخصها بالفضائل وأودعها ، باق لا يزول ، ودائم لا يحول . هو في جميع الأوقات إله واحد ، ولأعمال عباده رقيب مشاهد ، فسبحان من قلّب عباده في اختلاف الأوقات ، بين وظائف الطاعات ؛ ليسبغ عليهم فيها فوا ضل النعم ، ويعاملهم بنهاية الجود والكرم " أ . هـ

عباد الله : أما تعلمون أن الله يطلع على أفعالكم ، ويسمع أقوالكم ، وينظر أعمالكم !! فما هذه الغفلة عن يوم المناقشة والمحاسبة ؟ يوم يقوم الروح والملائكة صفاً ، وتُدك الأرض دكاً دكا !!

أيها الشاب : هذا أوان العبادة ، هذا أوان الطاعة ، من اجتنب وقت الشباب شر ما بين الرجلين وما بين اللحيين ، استحق فضل خالق الكونين . لا تتكل على سعة رحمة الله ، فإن بطشه لشديد ، وإنه لسريع العقاب .

ويا أيها الشيخ : جاءك وقت الانتقال ، وقرب منك أوان الارتحال ، وما بعد ذلك إلا الجنة ، أو مقام الآلآم ، فأوصيك ونفسي بتقوى الله في السر والعلن ، فإنها خير الزاد ، وهي المُنجي يوم المعاد ، فمن اتقى نجا ، ومن أعرض طغى وغوى .

عبد الله : اعلم أن مع العز ذلا ، ومع الحياة موتا ، ومع الدنيا آخرة ، وأن لكل شيء حسابا ، وعلى كل شيء رقيبا ، ولكل حسنة ثوابا ، ولكل سيئة عقابا ، ولكل أجل كتابا ، وأنه لا بد لك من قرين يدفن معك وهو حي ، وتدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيما أسلمك ، ثم لا يحشر إلا معك ، ولا تبعث إلا معه ، ولا تسأل إلا عنه ، فلا تجعله إلا صالحاً ، فإنه إن كان صالحاً لم تستأنس إلا به ، وإن كان فاحشاً لم تستوحش إلا منه ، وهو عملك .

اللهم إنا نسألك البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم اجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهك ، صواباً على سنة رسولك صلى الله عليه وسلم .

الحمد لله :

عباد الله : لقد كان شهر رمضان ميدانا للتنافس ، اجتهد فيه أقوام ، جعلوا رضا الله فوق أهوائهم ، وطاعته فوق رغباتهم ، أذعنوا لربهم في كل صغير وكبير ، صاموا شهرهم ، فعظم في ربهم رجاؤهم . وقصَّر آخرون فأضاعوا أوقاتهم ، وخسروا أعمالهم ، ما حجبهم إلا الإهمال والكسل ، والتسويف وطول الأمل .

والأدهى من ذلك والأمر ! أن يوفق أناس لفعل الطاعات ، والتزود من الخيرات ، حتى إذا ما انتهى الموسم ، نقضوا ما أبرموا ، وعلى أعقابهم نكصوا فكانوا ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً﴾ استبدلوا بالطاعات المعاصي ، استبدلوا بالمساجد الملاعب ، استبدلوا بالقرآن الغناء ، استبدلوا بالسواك السيجارة . فأين أثر التقوى التي ألفوها في هذا الشهر الكريم ؟ !

في الناس – عباد الله - من تطغى عليه فرحة العيد ، فتستبد بمشاعره ، حتى تنسيه واجب الشكر ، والاعتراف بالنعم ، وتدفعه إلى الزُّهو بالجديد ، والإعجاب بالنفس ، حتى يبلغ درجة المخيلة والتباهي . العيد عندهم : اختلاط و معاكسات ، ألعاب نارية وشاشات ، عيدهم فوضى ومنكرات ، وإتلاف للممتلكات ، عيدهم قنوات ومقابلات ، إسراف و تبذير ، واستخفاف بأعراض المسلمين ، وما علم هذا المتباهي بأن العيد يأتي على أناس قد ذلوا بعد عز ، فتهيج في نفوسهم الأشجان ، وتتحرك في صدورهم كثير من الأحزان ، ذاقوا من البؤس ألوانا ، وتجرعوا من العلقم كِيزانا ، فاعتاضوا عن الفرحة بالبكاء ، وحل محل البهجة الأنين والعناء . أما نظر هؤلاء إلى الأطفال والثكالى ؟ كم من يتيم ينشُد عطف الأبوة الحانية ؟ ويتلمس حنان الأم الرؤوم ؟ يرنو إلى من يمسح رأسه ، ويخفف بؤسه .

كم من أرملة توالت عليها المحن ؟ وكم من شيخ كبير قد أقعدته السنون ، وتحته أطفال يتضاغون ؟ فحقٌ على كل ذي نعمة ، ممن صام وقام أن يتذكر هؤلاء .

فاتقوا الله أيها المؤمنون ، وودعوا شهركم وابتهجوا بعيدكم ، بالبقاء على العهد ، وإتباع الحسنة الحسنة ، فذلك من علامات قبول الطاعة ، وقد ندبكم نبيكم صلى الله عليه وسلم بأن تتبعوا رمضان بصيام ست من شوال ، فمن فعل ذلك فكأنما صام الدهر كله .

 فاللهم إنا نسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وأن تغفر لنا وترحمنا ، وإذا أردت بعبادك فتنة ، فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين .