بر الوالـديـن

بسم الله الرحمن الرحيم

بر الوالـديـن

الحمد الله

فيا أيها الناس : جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ، وتعلقت القلوب بمن كان له فضلا عليها ، وليس أعظم إحساناً ، ولا أكثر فضلاً بعد الله سبحانه وتعالى من الوالدين .

حيث قرن الله حقهما بحقه ، و شكرهما بشكره ، ووصى بهما إحساناً بعد الأمر بعبادته ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾.

لله نعمة الخلق والإيجاد ، وللوالدين نعمة التربية والإيلاد . يقول ابن عباس رضي اله عنهما : ثلاث آيات مقرونات بثلاث : لا تقبل واحدة بغير قرينتها ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه . ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه . ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه .

فرضى الله في رضى الوالدين ، وسخط الله في سخطهما .

أيها المؤمنون : إحسان الوالدين عظيم ، وفضلهما سابق ، تأملوا حال الصغر ، وتذكروا ضعف الطفولة ﴿رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ حملتك أمك في أحشائها تسعة أشهر ، وهنا على وهن ، حملتك كرها ، ووضعتك كرها ، ولا يزيدها نموك إلا ثقلا وضعفاً . وعند الوضع رأت الموت بعينيها . و لما بصرت بك سرعان ما نسيت آلامها ، وعلقت فيك جميع آمالها . رأت فيك بهجة الحياة وزينتها ، ثم شغلت بخدمتك ليلها ونهارها ، تغذيك بصحتها ، طعامك درها . وبيتك حجرها . ومركبك يداها وصدرها ، تحيطك وترعاك ، تجوع لتشبع أنت ، وتسهر لتنام أنت ، فهي بك رحيمة ، وعليك شفيقه . إذا أصابك مكروه استغثت بها ، تحسب كل الخير عندها ، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها ، أو لحظتك بعينها .

فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي *** لها من جواها أنة وزفير

وفي الوضع لو تدري عليها مشقة *** فمن غصص منها الفؤاد يطير

وكم غسلت عنك الأذى بيمينها *** وما حجرها إلا لديك سرير

وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها *** حناناً وإشفاقاً وأنت صغير 

أما أبوك فإنه يكد ويسعى ، ويدفع عنك صنوف الأذى ، ويتنقل في الأسفار . يجوب الفيافي والقفار ، ويتحمل الأخطار ، بحثاً عن لقمة العيش ، ينفق عليك ، ويصلحك ويربيك . إذا دخلت عليه هش ، وإذا أقبلت إليه بش ، وإذا خرج تعلقت به ، وإذا حضر احتضنت حجره وصدره ، هذان هما والداك ، وتلك هي طفولتك وصباك ، فلماذا التنكر للجميل ؟ وعلام الفظاظة والتنكيل ، وكأنك أنت المنعم المتفضل ؟! .

أخرج الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال : أبايعك على الجهاد والهجرة أبتغي الأجر . قال : «فهل من والديك أحد حي» ؟. قال : نعم بل كلاهما . قال «فتبتغي الأجر من الله» قال: نعم قال: «فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما».

أيها المسلمون : إن حق الوالدين عظيم ، ومعروفهما لا يجازى ، وإن من حقهما المحبة والتقدير ، والطاعة والتوقير ، والتأدب أمامهما ، وصدق الحديث معهما ، تحقق رغبتهما في المعروف ، وتنفق عليهما ما استطعت : «أنت ومالك لأبيك» . ادفع عنهما الأذى ، فقد كانا يدفعان عنك الأذى . لا تحدثهما بغلظة أو خشونة أو رفع صوت . جنبهما كل مايورث الضجر : ﴿لاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَ﴾ تخير الكلمات اللطيفة ، والعبارات الجميلة ، والقول الكريم .

تواضع لهما ، واخفض جناح الذل رحمة بهما ، وطاعة وحسن أدب ، لقد أقبلا على الشيخوخة والكبر ، وتقدما نحو العجز والهرم ، بعد أن صرفا طاقاتهما في تربيتك وإصلاحك . تأمل قول ربك : ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ﴾ إن كلمة ﴿عِندَكَ﴾ تدل على معنى التجائهما واحتمائهما وحاجتهما ، فلقد أنهيا مهمتهما ، وانقضى دورهما ، وابتدأ دورك وهاهي مهمتك : ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن لي أماً بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية ، وأوضؤها وأصرف وجهي عنها ، فهل أديت حقها ؟ قال : لا . قال : أليس قد حملتها على ظهري , وحبست نفسي عليها ؟ فقال عمر : إنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك ، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها ، ولكنك محسن ، والله يثيب الكثير على القليل .

الخطبة الثانبة :

 فإن حق الوالدين عظيم ، ولكن عليك بالدعاء لهما في حال الحياة وبعد الممات اعترافاً بالتقصير ، وأملاً فيما عند الله ﴿رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ .

أيها المسلمون : إن العار و الشنار ،والويل والثبور ، أن يفجـأ الوالدان بالتنكر للجميل ،كانا يتطلعان للإحسان ، ويؤملان الصلة بالمعروف ، فإذا بهذا المخذول , قد تناسى ضعفه وطفولته ، وأعجب بشبابه وفتوته ، وغره تعليمه وثقافته ، وترفع بجاهه ومرتبته ، يؤذيهما بالتأفف والتبرم ، ويجاهرهما بالسوء وفحش القول ، يقهرهما وينهرهما ، يريدان حياته ، ويتمنى موتهما ، وكأني بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين . تئن لهما الفضيلة ، وتبكي من أجلهما المروءة .

ياأيها الجاحد : هل حينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك ؟! قدمت غيرهما بالإحسان ، وقابلت جميلهما بالنسيان ، شق عليك أمرهما ، وطال عليك عمرهما . أما علمت أن من بر بوالديه بر به بنوه ، ومن عقهما عقوه ، ولسوف تكون محتاجاً إلى بر أبنائك ، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك ، وكما تدين تدان ، والجزاء من جنس العمل . يقول عليه الصلاة والسلام : «ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» . وإن من أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين ، عن عبد الله بن عمر رضي اله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان عطاءه . وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه ، والديوث ، والرجلة من النساء».

فاتقوا الله يرحمكم الله واعلموا أن بر الوالدين فريضة لا زمة ، وأمر محتم ، وهو سعة في الرزق ، وطول في العمر ، وحسن في الخاتمة . عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : «من سره أن يمد له في عمره ، ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه» .

 ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً﴾.

فاتقوا الله أيها المؤمنون ، واعلموا أن من البر أن يتعهد الرجل أصدقاء والديه ، ويحسن كرامتهم , ويفي بحقهم ، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  وقال : هل بقى علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما ؟ قال صلى الله عليه وسلم : «نعم الصلاة عليهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما من بعدهما».

قال ابن الجوزي : أما بعد فإني رأيت شبيبة من أهل زماننا ، لا يلتفتون إلى بر الوالدين ، ولا يرونه لازماً لزوم الدين ، يرفعون أصواتهم على الآباء والأمهات ، وكأنهم لا يعتقدون طاعتهم من الواجبات ، ويقطعون الأرحام التي أمر الله بوصلها في الذكر ، ونهى عن قطعها بأبلغ الزجر ، وربما قابلوها بالهجر .