الليل والنهار والشمس والقمر

بسم الله الرحمن الرحيم

الليل والنهار والشمس والقمر

الحمد لله :

عباد الله : بين أيديكم ، وأمام أعينكم مخلوقاتٍ عظيمة ، خلقها الله تعالى ، وجعل فيها عظاتٍ وعبراً ، وآياتٍ وحكماً ، لم يخلقها سدىً وعبثاً . الليل بظلامه وسكونه ، والنهار بأنسه و ضيائه ، يطول الليل تارة ويقصر أخرى ، ويقصر النهار تارة ، ويطول أخرى ، ويعتدلان ويتعاقبان . والشمس بنورها وإشراقها ، والقمر بضيائه  وتقدير منازله ، واختلاف سيره ، من ضعف إلى تمام إلى نقص ، كل ذلك تقدير العزيز العليم ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾. فلا يستطيع أحد  مهما بلغت قوته ، وتقدمت حضارته وصنعته ، أن يمنع الليل من أن يسدل ظلامه ، أو  يمنع النهار أن يشرق بنوره وضيائه ، أو يمنع سير الشمس أو القمر .  بل لا يقدر البشر كلهم أجمعون على ذلك ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، فالأمر في ذلك لله الواحد القهار . ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾.

عباد الله :

هذه الأبعاد الهائلة ، والأجرام الضخمة ، والآفاق الواسعة ، والعوالم المجهولة ، هذا التناسق في مواقعها وجريانها . تعاقب النور والظلام ، وتوالي الإشراق والعتمة . ذلك الفجر وهذا الغروب ، كم اهتزت لها مشاعر ، وكم وجفت لها قلوب ، وكم كانت أعجوبة الأعاجيب ، كم في هذه المشاهد المكرورة من عجيب ! وكم فيها من غريب ! وكم اندهشت العيون والقلوب وهي تراها ، ثم ألفتها ففقدت هزة المفاجأة ، ودهشة المباغتة ، وروعة النظرة 

عباد الله :

تفكروا في هذه المخلوقات ، وتدبروا في هذه الآيات ، فقد وصف الله المؤمنين بذلك فقال : ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾ ووجه عباده في آيات كثيرة من كتابه ، إلى التفكر ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ ﴿إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ وذم المعرضين الذين لا يتفكرون ﴿وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ ، ولهذا كان السلف الصالح ، يتفكرون  ويتدبرون ، ويحثون على ذلك .  

قال أبو الدرداء رضي الله عنه : تفكر ساعة ، خير من قيام ليلة .  

وقال وهب بن منبه رحمه الله : ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم ، وما فهم إلا علم ، وما علم إلا عمل .  

وقال بشر الحافي رحمه الله: لو تفكر الناس في عظمة الخالق لما عصوه .

ذلك لأن الإنسان إذا نظر إلى هذه المخلوقات بعين الفكرة والبصيرة ، دله فكره على الخالق ، وعلى أنه الإله الحق المبين ، الذي أقرت الفطر بربوبيته وإلهيته ، وحكمته ورحمته .

عباد الله :

هذه الآيات والمخلوقات ، لم يخلقها ربنا جل وعلا  لعباً ولهواً ،  بل جعل فيها حكما ، لا يدركها إلا أهل العقول المؤمنة التقية ، التامة الزكية ﴿إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ ، ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ، ﴿لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً﴾  .

وكثير من الناس اليوم ، إذا نظر إلى المخترعات العصرية ، والصناعات التقنية ، بهرتهم بدقة صنعتها ، ووفرة منجزاتها ، وأعجبوا بمخترعيها وصانعيها ، وما هي إلا جزء صغير من عجائب  هذا الكون ، الذي خلقه الله وسخره ، وأطلع عباده على بعض أسراره ، وألهمهم معرفة استخدامه ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ فهذه المخترعات ومخترعوها خلق الله تعالى ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ

ومع هذا عميت بصائر الكفار والمنافقين ، فلم يعتبروا بهذه الآيات ، وكفروا بخالقها ، وجحدوا نعمته ، وظنوا أنهم حصّلوا التقانة الحديثة ، والصناعات المختلفة ، بحولهم وقوتهم ، وتفكيرهم وبراعتهم ؛ فاغتروا بما توصلوا إليه ، واستكبروا في الأرض بغير الحق ، ولم يعتبروا بمصير من سبقهم من الأمم الكافرة ﴿فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ﴾.

فاللهم إنا نسألك أن ترزقنا التفكر في آياتك ، والعمل بطاعتك ، وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا .

الخطبة الثانية :

الحمد لله رب العالمين ، نصّب من آياته على وحدانيته دليلاً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، رب المشرق والمغرب ، لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أنزل  عليه ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه دائماً بكرة وأصيلا ..

أما بعد :

عباد الله : من أدرك الحكم والعبر من هذه الآيات ، وأعمل فكره في تقلبها ، وذهابها ومجيئها ، وظهورها واختفائها ، وجعل ليله ونهاره خزينة لأعماله الصالحة ، فاجتهد في طاعة ربه وعبادته ، وعمر وقته بما ينفعه في الدنيا والآخرة ، وعلم أن ذهاب اللياليَ والأيام ، وتعاقبَ الشمس والقمر عليه ، علامة على أن الرحيل من هذه الدنيا قريب ، فكلما مر عليه ليل ونهار ، فقد نقص من عمره . فلينظر كل منا ، كم من الليالي والأيام ؟ والشهور والأعوام ؟ انتقلنا فيها من الضعف إلى القوة ، ومن القوة إلى الضعف والشيبة ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ﴾ تنقلنا فيها بين الفقر و الغنى ،  والخوف والأمن ، والصحة والمرض ، والضراء والسراء ، والحزن والفرح ، فيها حوادث ومدلهمات ، ومشاهد ونكبات ، كل ذلك بعلمه سبحانه وحكمته ، وإحاطته وتدبيره  ورحمته .

عباد الله :

هنيئاً لمن أطاع ربه وأرضاه ، وبؤساً لمن تكبر عليه وعصاه ، «ومن بطّأ به عمله ، لم يسرع به نسبه»  واعلموا أن «خيركم من طال عمره ، وحسن عمله» . «واعملوا ، فكل ميسر لما خلق له»  فإن كل واحد منا له أجل محدود ، ويوم موعود ، وكل ما هو آت قريب ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ وعند ذلك يخسر المبطلون ، ويتحسر الظالمون ، ويطلبون العود ، فلا يمكنون ، ويقال لهم : فات الأوان ، وانقضى الزمان ، وأنتم في غفلة معرضون . عند ذلك  ﴿لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ ويجد كلُ ما قدم إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر  «فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».