القضاء والقدر

بسم الله الرحمن الرحيم

القضاء والقدر

تبرز أهمية التوحيد ، وتتجلى فوائده ، وينصع بياضه ، ويطيب جناه ، يوم أن يراها المسلم ، ماثلة أمام عينية ، واقعاً ملموساً ، وشيئاً محسوساً . عندما تدلهم الخطوب ، وتعظم الكروب ، يوم أن تضيق السبل ، وتستحكم الأقدار ، يوم  تحار العقول ، وتضطرب الأفكار ، يشع نور التوحيد ، ويتنفس نور الإيمان بالقضاء والقدر ، عندها تهدأ العاصفة ، وتزول الهموم ، ويتجدد الأمل ، وتطمئن القلوب ، ويقرب النصر بإذن الله .

أيها المسلمون إن الإيمان بالقضاء والقدر ، هو الركن السادس من أركان الإيمان ، ضل فيه أقوام ، ممن حرم هداية الله ، ولم يوفق للتوحيد ، الذي هو حق الله على العبيد ، والفرقة الناجية المنصورة ، تؤمن بالقدر خيره وشره ، ويقولون : إن القدر سر الله في خلقه ، لم يطلع على ذلك ، ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان ، وسلم الحرمان ، فإن الله تعالى طوى علم القدر على أنامه ، و نهاهم عن مرامه ، كما قال تعالى في كتابه ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾.

 ويجب على المسلم أن يتفطن لأمر مهم ، غفل عنه كثير من المسلمين ، ألا وهو وجوب التعلق بالله ، وقطع النظر عمن سواه ، وعدم التعلق بالأسباب ، مع وجوب استعمالها والأخذ بها ، فالله عز وجل بيده كل شيء ، فهو مقدر الأسباب والمسببات ، فلا راد لحكمه ، ولا معقب لأمره .

أيها المسلمون : إن تطبيق مقاييس البشر ومفاهيمهم على قضاء الله وقدره ، هو مكمن الخطر ، ومزلة الأقدام ، حيث جعل هذا مؤمناً وذاك كافراً ، وذاك غنياً وهذا فقيراً ، وأخذه للشاب في شبابه ، والطفل من أكف أبويه ، وإبقائه لكهل لا يدري معنى البقاء ، كل ذلك يجد الشيطان به طريقاً للقدح في حكمة الله وقدره . ولو ملئت قلوب هؤلاء بالإيمان واليقين ، والرضا بالله رب العالمين ، لما وجد الشيطان إلى قلوبهم طريقاً ، ولا إلى عقولهم مسلكاً ، ولأيقنوا أن الله لم يقدر شيئاً إلا لحكمة ، قد يعلمها الإنسان وقد تختفى عنه ، ولن تقر نفوس هؤلاء ، إلا إذا خالطها الإيمان بالله ، والتسليم له ، والرضا بقضائه وقدره . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً» ، وقال صلى الله عليه وسلم : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» .

عباد الله : إن قلق كثير من الناس ، وخواء أفئدتهم من الإيمان بقضاء الله وقدره ، والشعور بالوهن عند حلول المصائب ، هو سر قيام الدجل والتكهن ، والعرافة والتنجيم  ، وهو سر تعلق بعض الناس ، بشركات التأمين ، التي قرر حرمتها علماء الملة .

وما يمر به المسلمون اليوم من نكبات ، وما هم فيه من ضعف و ذلة  وهوان ، جعل البعض مستسلماً لا يحرك ساكناً ، يائساً متخاذلاً ، لأن الأمور في زعمه محسومة ، فلا يعمل لنصرة دين الله ، وإعلاء كلمته .

إن شأن الناس مع القدر عجيب ، فذاك تاجر يتوجس انهيار تجارته ، ويسهر ليله ، ويفرط في طاعة ربه ، وآخر غط في نوم عميق ، فهو لا يتجشم مؤونة سعي ، لأن الأرزاق في زعمه مقسومة . والحق في التوسط بين الطرفين ، فالمسلم يؤدي العمل المطلوب ، فيعقل ويتوكل ، بعد أن يؤدي ما عليه .

إن الله عز و جل ، قسم المعاش ، وقدر الأرزاق ، والناس أجمع لا يملكون منعا ولا عطاءاً ، فما أعطوك أو منعوك فهو بقدر الله ، وما كان لك فسوف يأتيك على ضعفك ، وما كان لغيرك فلن تناله بقوتك ، وما عليك إلا أن تجد وتعمل ، وتضرب في آفاق الأرض ، وتأخذ بأسباب الرزق . ومسألة الرزق أدق من أن تدرك ، وأبعد من أن تنال ، وتأملوا في أحوال الناس ، ترون منهم الغواصين الذين جعل الله رزقهم في أعماق البحار ،  والطيارين الذين جعل الله معاشهم بين السماء والأرض ، وعمال المناجم الذين يجدون لقمة عيشهم ، مخبوءاً في الصخر الأصم ، فلا ينالونه إلا بتكسيره ، والطير تغدو خماصاً ، وتروح بطاناً ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾. فلا تجزعوا من الفقر ، فإنه قد يسمو كما سما فقر المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولا تغتروا بالغنى ، فإن الغنى قد يدنو كما دنى غنى قارون . واجعلوا الفقر والغنى مطيتين لا تبالون أيهما ركبتم ، إن كان الفقر ففيه الصبر ، وإن كان الغنى ففيه البذل ، وإن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ، وتستوعب رزقها  ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ

واعلموا - عباد الله - أن القضاء هو ما قضي من القدر و وقع ، لأن قضاء الشيء يعني انتهاءه ، وأما القدر فهو لما سبق في علم الله ولما كتب ، فإذا وقع القدر صار قضاءًا .

الخطبة الثانية 

عباد الله ، إن للإيمان بالقضاء والقدر ، ثمرات عظيمة ، وفوائد جليلة ، فمن ذلك  : أنه يملأ قلب صاحبه برداً وطمأنينة ، فلا يأسى على ما فاته ، ولا يفرح بما يؤتاه ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ فلا يأسى على ما فاته من الدنيا ، لا يأسى على ذهاب المال ، لا يأسى على ذهاب المنزلة ، وليس بذي فرح وفخر لما يعطاه ، لأنه يعلم أن الأمور بقضاء وقدر ، وأن ما شاء الله كان ، و ما لم يشأ لم يكن .

ومنها : أن يعلم المؤمن أن إرادة الله ماضية ، وأن الأمور لا يجرها حرص حريص ، ولا يردها كراهية كاره ، وأن عمل الناس إنما هو سبب ، وقضاء الله وقدره نافذ ، وحكمته بالغة ، فيجعل المؤمن يعمل كما أمره الله «اعملوا فكل ميسر لما خلق».

إن الإيمان بالقضاء والقدر يثمر الإقدام والشجاعة والتسليم ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا﴾ إن الذي يعتقد أن الأجل محدود ، والرزق مكفول ، والأمور بيد الله يصرفها كيف يشاء ، كيف يرهب الموت والبلى ؟ وكيف يخشى الفقر والفاقة ؟ ومن هنا انطلق السلف الصالح إلى الممالك والأقطار يفتحونها ، فأدهشوا العقول ، وحيروا الألباب ، وقهروا الأمم ، فسكروا كسرى ، وقصروا قيصر ،  ودمروا بلاداً ، ودكدكوا أطواداً ، وسحقوا رؤوساً ، أرجفوا قلوباً ، قائدهم في ذلك ، الإيمان بالله وقضائه وقدره . بهذا الاعتقاد لمعت سيوفهم بالمشرق ، وشع بريقها في المغرب ، فالله أكبر ما أعظم الإيمان بالقضاء و القدر قيصر.

ومن الفوائد أن العبد لا يعجب بأعماله الصالحات ، ولا بما يقوم به من طاعات وقربات ، فلا ينسب الفضل لنفسه ، ويحتقر من هو دونه ، بل ينسب الفضل كله لله ، فإن الله سبحانه هو الموفق لذلك وهو المعين  ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ

ومنها : رباطة الجأش ، وعدم الانهيار عند المصيبة ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ، قال علقمة رحمه الله : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم . وقال ابن عباس : يهدي قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه .

إذا ابتليت فثق بالله وارض به *** إن الذي يكشف البلوى هو الله

إذا قضى الله فاستسلم لقدرته *** ما لأمري حيلة فيما قضى الله

اليأس يقطع أحيانا بصـاحبه *** لا تيأسن فنعم القـــادر الله