من صور ضعف الغيرة

بسم الله الرحمن الرحيم

من صور ضعف الغيرة

فلقد عرف الرجال بالغيرة على المحارم ، قديماً وحديثاً ، ومع تقادم العهد ، والاختلاط بالكفار ، والتأثر ببعض الأفكار ، دعوة للحرية الشخصية ، ورمي للإسلام بالرجعية ، والمطالبة بالتقدمية ، انطلقت تلك الصيحات ، ممن ينصبون أنفسهم مفكرين ، ويدعون بأنهم مثقفين ، اتباع الهوى عندهم أرجح من الخضوع للدليل ، وبريق التقدم الكاذب ، أقوى من سلطان الشرع والدين ، ولهم قدرة عجيبة ، في إلباس الحق بالباطل ، إنهم يجيدون قلب القيم ، وتغيير المفاهيم ، عقدوا لذلك المؤتمرات والندوات ، وامتطوا من أجله صهوات المنظمات ، زعموا أن التقدم العلمي ، والسباق التقني ، لن يتحقق إلا على أنقاض الفضيلة والإيمان ، إنهم يريدون للمرأة الإباحية الجنسية ، والتفسخ الأسري ، ومحاربة الزواج المبكر ، وفتح أبواب الإجهاض ، يريدونها غائبة في سوق الملذات ، في دور الأزياء ، وفي شاشات التلفاز ، وفي صالات المسارح ، وعلى شواطئ البحار ، وفي بيوت اللهو والدعارة ، وعلى أغلفة المجلات ، وفي ردهات المستشفيات ممرضات ، وعلى متن الطائرات خادمات . يستعبدها الرجل الذي يزعم تحريرها ، لا يريد حريتها ، لكنه يريد حرية الوصول إليها .

شبه وضلالات ، وافقت هوى وضعف ديانة ، فانساق في ركابهم بعض الغافلين ، وتبعهم من قل عنده الدين ، حتى اتسع الخرق على الراقع ، وأصبحت الديار من الغيرة بلاقع . إلا من رحم الله .

وإليكم صوراً من هذه الانتكاسات ، نعيشها كل يوم ، وتتكرر كل فترة ، حتى أخذنا نألفها ، وكنا إلى وقت قريب ننكرها ، وقد قيل: كثرة الإمساس ، تقلل الإحساس .

الغيرة الغيرة يا عباد الله ، فالحمو الموت ، أتعلمون أنه في بعض العوائل يجلس الإخوة كل وزوجته ، على مائدة واحدة ، وتدار فيها الأحاديث الساخرة ، والعبارات الرقيقة ، بدعوى الثقة في الأخ . فكم من كلمة أوقعت في قلب سامعها غراماً ، ألم تسمعوا قول الشاعر :

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة *** والأذن تعشق قبل العين أحياناً

ومن صور ضعف الغيرة ، ما ابتلي به كثير من بيوت المسلمين ، بوجود السائق ، فتركوا الحبل على الغارب للنساء ، تركت لها حرية الخروج ، مع السائق وحدها ، أو مع طفل صغير لم يبلغ الحلم ، ولقد تراها في بعض الأحيان بجانبه وكأنه زوجها ، تنطلق معه إلى السوق ، بلباس يصعب وصفه ، فإما قصير أو مشقوق ، أو شفاف أو بنطال ، ناهيك عن التعطر والتجمل ، ثم تتقلب في السوق من محل إلى آخر ، فتكلم هذا ، وترد على ذاك ، وتفاصل الثالث ، وتتلطف إليه بأرق العبارات ليقلل القيمة ، ناهيك عن ما يعتريها في الطريق ، من معاكسة سفيه ، أو رقماً من مريض . تتقاطر عليها سهام من النظرات الخبيثة ، وتنهشها ذئاب جائعة ، فأين الزوج الغيور ؟ إنه عاكف على لهوه ، أو لاهث خلف دنياه .

ومن قبائح جديد التبعية ، وذل التقدمية ، ما أخذ في الانتشار في بعض قصور الأفراح ، يدخل أقارب الزوج معه ، ويرقصون أمام النساء ، وتراقصهن القريبات ، بدعوى أنها ليلة فرح لا تتكرر .

ومن مظاهر ضعف الغيرة ، ما كثر وراج ، حتى على بعض الصالحين هداهم الله يتمثل ذلك في مخالفة أمر الله بالقرار في البيوت ، فقل لي بربك ، متى تقر المرأة في بيتها ؟ إذا كانت تقضي نصف نهارها في المدرسة أو العمل ، وربعه في الزيارات والمناسبات ، وشراء حاجاتها الشخصية ؛ فقلت للضرورة ، فهل من الضرورة أن تختار هي نوع البلاط ، أو لون الستائر والسجاد ، أليس من الممكن أن تشتريها وحدك ؟ ألا يمكن أن تحضر لها في البيت العينات ، مكرمة مصونة ، معززة مكنونة ، بل لقد أصبح منظراً مألوفاً ، أن ترى الشاب ترافقه زوجته ، أمام أنواع الأجبان ، أو أصناف العصائر ، يستشيرها في أنواع معروفة ، وقضايا محسومة ، لكنه داء دب في البعض ، الرأي والرأي الآخر ، وللمرأة حقوقها ، أليست إنسانة ؟ أليس لها مشاعر ؟ وقد سئمت من البقاء في البيت . فيا من راجت عليه الشبه ، وتأثر بالتضليل ، ورضخ تحت ضغوط الواقع ، أليس الذي خلقها فسواها ، هو أعلم بما يصلح حالها ، وبما يقي المجتمع فتنتها «ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء» متفق عليه ، ألم يأمرها بالقرار في البيت ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ ، ألم يخبرك بأنها ناقصة عقل ودين ، ألم يخصك بالقوامة ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ ، ألم يفضلك عليها ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ ، أليست شهادتها بنصف شهادة الرجل ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ ، أليس لها من الإرث نصف ما للرجل ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ ، فلماذا رضيت بحكم الله في هذه ، وجادلت في ذاك ، ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ أم أنه سيأتي زمان نطالب فيه بالمساواة التامة ؟ وقد أتى ، ظهرت يا عباد الله ثلة ممن يدعون العلم والثقافة ، ويتبجحون بالحضارة ، يطالبون بحقوق المرأة ، وكأنها مسلوبة ، يدعون لمساواتها بالرجال ، وكأنها منسية . فهل سنرضخ للضغوط ؟ وهل نستجيب للنعيق ؟ الحضارة يا من تدعيها ، أن تتبع في الحق لا تتبع ، التقدم أن تفرض مبادئك ، وأن يظهر دينك ، وأن تعلو رايتك ،

الخطبة الثانية

فمن صور ضعف الغيرة ، أن يجلس العاقل بعائلته تحت شجرة ، أو في المخططات التي حظيت بالإنارة ، أو على الطرقات ، أو في الحدائق العامة ، أو على الشواطئ البحرية ، أو في المنتجعات البرية ، والناس من حوله ، فلا يرتاح في جلوس ، ولا يأنس بحديث ، فقل لي بربك أليس سطح بيته أولى له ، ولست أحجر واسعاً ، أو أطلب مستحيلاً ، لكنني أطالب بالطهر والعفاف ، فإن احتجت إلى مثل ذلك ، فعليك بالنائي من المكان ، وأرض الله واسعة .

ومن صور ضعف الغيرة ، تخلي بعض الرجال عن القوامة ، أليست الأمور الآن في أيدي النساء ؟ ألسن الآمرات الناهيات ؟ ألسن على البيوت المنفقات ؟ فلم يعد للرجل سلطته الأولى ، ولا مكانته السابقة ، أصبح يأمر فيعصى ، وينهى فلا يطاع .

وإنك والله لتعجب عند ما ترى شيخاً مسناً ، أو رجلاً عاقلاً ، أو فتى يافعاً ، يمشي بجانب بنته أو زوجته أو أخته ، وقد أخرجت عينيها ، وبعض وجنتيها ، وشيئاً من ذراعيها ، وكأن الأمر لا يعنيه . تأمل في وقوفها عند الصراف ، وعند الخياط ، وعند الخباز ، بل وعند الحلاق ، والزوج في سيارته ، ينتظر حتى تنتهي المهمة ، يقلب موجات الإذاعة ، أو يتراقص على أنغام موسيقى . وأشد منه مخالفة من يترك كل ذلك للسائق .

ومن عجائب ما ترونه ، تسابق النساء على الوظائف ، ولو أدى ذلك إلى مخالفة شرع ربها ، وصحيح سنة نبيها ، الوظيفة أولاً ، ولو بالسفر يومياً ، وبدون محرم ، مدرسة في قرية ، الوظيفة أولاً ، ولو حدثت خلوة في مستشفى ، الوظيفة أولاً ، ولو حدث اختلاط في دائرة حكومية . وربما يقول قائل : للبيوت أسرار ،وللناس ظروف ، فأقول : وهل كل الموظفات مضطرات ؟ أو عندهن ظروف قاهرات ؟ وكم هن من بين الموظفات ؟ وغير مبالغ لو قلت عشرات . وإذا وجد ذلك فللشرع ننقاد ، وتقدر الضرورة بقدرها . وليعلم من لا يعلم أن العاقبة لنداء الفطرة ، الذي يقول : إن الرجل الشريف ، ذا الغيرة والشهامة ، يقف إلى جانب المرأة ، أماً يبرها ويرعاها ، وبنتاً يربيها ، وأختاً يحميها ، يبحث عن المرأة التي تعمر البيت بوجودها وحركتها ، وتربيتها لأبنائها ، وليست المرأة التي تملأ المعامل والمصانع ، والمكاتب والشوارع .

وإذا أردت أن ترى موت الغيرة في أقبح صورها ، فانظر إلى هذا البلاء القاتل ، وهذا الغثاء المدمر ، من ابتكارات البث المباشر ، وقنوات الفضاء الواسع ، أين ذهب الحياء ؟ وأين ضاعت المروءة ؟ أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئتها أجواء الفتنة ؟ تجرها إلى مستنقعات التفسخ جراً ، وتدفعها إلى الإثم دفعاً ، وتدعها إلى الفحشاء دعاً . إعلان للفاحشة بوقاحة ، وإغراق في المجون بسفاهة ، أغان ساقطة ، وأفلام آثمة ، وسهرات فاضحة ، وقصص داعرة ، وملابس خالعة ، وعبارات مثيرة ، وحركات فاجرة ، ما بين مسموع ومقروء ومشاهد .

لا تحسبون أني بالغت ، أو أني في الخطاب قسوت ، أو أني في الحكم جرت ، ولكني أطالبكم بحكم الله ، وأدعوكم إلى سنة رسول الله ، أخشى على أمتي من الضلال ، و أخاف عليها من الهلاك . ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ فيا رجلاً أكرمك الله ، اتق الله في من ولاك ، وراقبه في من استرعاك ، وكن غيوراً على محارمك ، وقم بالأمانة كما أمرك ، فكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته .