الغيبــة

بسم الله الرحمن الرحيم

الغيبــة

الحمد لله

فإن اللسان نعمة من نعم الله العظيمة ، لكن آفاته كثيرة ، ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ ، ﴿وَقِفُوَهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾ ، وحديثنا اليوم عن آفة من آفات اللسان ، كثر طرقها ، وتعدد الواقعون فيها ، آفة وقف منها ديننا موقفاً حازماً ، آفة يمثل فشوها مظهراً من مظاهر الخلل ، وقلة الورع ، وضعف الديانة ، إنها كبيرة من كبائر الذنوب ، إنها الغيبة يا عباد الله ، إنها ذكر العيب بظهر الغيب ، ذكرك أخاك بما يكره ، قال جل وعلا  ﴿وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ «أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم . قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم . وفي الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم ، حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا هل بلغت» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وعرضه وماله» و عند أبي داود بإسناد صحيح ، عن أنس رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم» وعند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي  قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه ؛ أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار» وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول : «من قال في مؤمن ما ليس فيه ؛ أسكنه الله ردغة الخبال ، حتى يخرج مما قال» رواه أبو داود بإسناد صحيح أتدرون يا عباد الله ما ردغة الخبال ؟ إنها عصارة أهل النار عياذاً بالله من ذلك . وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه مر على بغل ميت فقال لبعض أصحابه : لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه ، خير له من أن يأكل لحم رجل مسلم . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل ؟ قال : «من سلم المسلمون من لسانه ويده» رواه البخاري ومسلم ، يقول الحسن رحمه الله : والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة في الجسد ، وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني . فقال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي . وقيل لبعض الصالحين : لقد وقع فيك فلان حتى أشفقنا عليك ورحمناك ، فقال : عليه فأشفقوا ، وإياه فارحموا .

أيها المسلمون : المغتاب  قد انطوى قلبه على بغض الخلق ، وكراهية الخير ، لا يعنيه نفع نفسه ، بقدر ما يعنيه ضرر غيره ، راحته أن يرى النعمة عن أخيه زائلة ، والمحنة به واقعة ، يسره أن يرى الخير عن أخيه ممنوعاً ، والمصائب به نازلة .

أيها المسلمون : إنه ينبغي للمسلم أن يرد عن عرض أخيه فقد روى الإمام أحمد بسند حسن من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من ذب عن عرض أخيه بالغيبة ؛ كان حقاً على الله أن يعتقه من النار» وعند الترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من رد عن عرض أخيه ؛ رد الله عن وجهه النار يوم القيامة» وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : من نصر أخاه بالغيب ؛ نصره الله في الدنيا والآخرة .

فاتقوا الله يا مسلمون ، وليسلم من  ألسنتكم إخوانكم ولا سيما أهل العلم و الفضل  ورجال الحسبة والصالحين من عباد الله . أقول …………

الخطبة الثانية

الحمد لله,, أما بعد ..

فقد ذكر العلماء أموراً ليست من الغيبة ، لما يترتب عليها من المصالح ، التي لا تدرك إلا ببيانها والإفصاح عنها ، وذكروا منها :

التظلم : فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية ، أو قدرة على إنصافه من ظالمه ، فيقول : ظلمني فلان بكذا .

ومنها : الاستعانة على تغيير المنكر ، ورد العاصي ، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر : فلان يعمل كذا .

ومنها  :  تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم ؛ وذلك من وجوه : منها جرح المجروحين من الرواة والشهود ، وذلك جائز بل واجب للحاجة .

ومنها : المشاورة في مصاهرة أو مشاركة أو معاملة أو مجاورة أو غير ذلك ، ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله ، بل يذكر ما فيه بنية النصيحة .

ومنها : إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم ، فعليه النصيحة ببيان حال ذلك المبتدع .

ومنها : أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها ، فعليه ذكر ذله لمن له عليه ولاية عامة ليزيله .

وغير ذلك مما فيه مصلحة شرعية ، وغرض صحيح لا يمكن الوصول إليه إلا بها ، وقد ذكرها بعضهم بقوله :

لقدح ليس بغيبة في ستة *** متظلم ومعرف ومحذر

ومجاهر فسقاً ومستفت ومن *** طلب الإعانة في إزالة منكر

وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «ائذنوا له بئس أخو العشيرة» واحتج به البخاري رحمه الله في جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب .

وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أنها قالت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن أبا الجهم ومعاوية خطباني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما أبو الجهم ، فلا يضع العصا عن عاتقه» متفق عليه .

فاتقوا الله أيها المسلمون ، واحذروا  من الغيبة وأسبابها ، وإن اضطررتم إليها لمصلحة شرعية فليراقب الإنسان قلبه ، وليتقي ربه ، وليكن صادقاً في قصده .