عاقبة الظلم والطغيان

بسم الله الرحمن الرحيم

عاقبة الظلم والطغيان

أيها الناس، إنه ليس شيءٌ أسرع في خراب الأرض ، ولا أفسد لضمائر الخلق ، من الظلم والعدوان، ولا يكون العمران ،حيث يظهر الطغيان، وإن الظالمَ الجائر ، لا يعيش في أمان، ولا ينعَم بسلام، حياتُه في قلق، وعيشه في أرق ،  الظلم جالبُ الإحن ، ومسبِّب المحن، والجَور مسلبةٌ للنعم ، مجلبة للنقم، وقد قيل: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش.

فلله ما أعظمَ عصيان بني آدم، وما أشد استكبارَه ، يا عجبا من مضغةِ لحم تسمعُ آيات الله تتلى عليها ، ثم تصرُّ مستكبرة كأن لم تسمعها، كأن وقراً في أذنيها ، لا تلين ولا تخشع، ولا تهبط ولا تصدّع، ولو وعظها لقمان ، أو تليت عليها آيات القرآن  ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ﴾ عباد الله : لقد ضرب فرعون مثلاً في العجب بالنفس ، واتخاذ القرار الذي لا يعاب ، وأن رأيه هو الرشيد، و أمره هو السديد ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾  هذا فرعون الذي بلغ من الطغيان والجبروت ما بلغ، حتى إنه استعبد الخلق ، وبلغ به الغرور ، أن قال : كما قص الله ﴿يٰأَيُّهَا ٱلْملاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى

 وهذا قارون فتح الله عليه الأرزاق ، عظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء. طغى وتجبّر، تطاول وتمادى، زاد نهمه، وكثر خدمه، وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت مكانه فئام من الناس . فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها، والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة، وعظمت العبرة ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾ واستمع إلى ما حل بعاد ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ

عباد الله : واعجباً من هؤلاء الظلمة ، ألم يتفكروا في مصائر من قبلهم، أين الأمم السوالف ، أين عاد وثمود، أين فرعون والنمرود، أين القياصرة، أين الجبابرة، أين كسرى والروم؟ ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ (7) ٱلَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى ٱلْبِلَـٰدِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ (10) ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ (11) فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ

 لا إله إلا الله ، يا ويح الطغاة الفجار ، يظلمون بالليل والنهار، والشهوات تفنى وتبقى الأوزار، كم ظالم تعدى وجار ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا

أيها المسلمون، إن الأمة اليومَ ، تواجه خصاماً بعنف ، وتآمراً بقُبح ، وحرباً بجبروت، يقودها قومٌ لئام، أماطت الأحداثُ عنهم اللثام ، يبطنون الضغائن ، ويحملون مسمومَ الدفائن، ملؤوا الدنيا عدواناً، وأشعلوها نيرانا، وأنَّى يُحقِّق هؤلاء سلاماً ! أحداثٌ تُفتعَل، وأدوارٌ تُمثَّل وتُنتحَل، إفكٌ وافتراء، واتِّهام وادِّعاء، وغطرسة وغرور، واستبداد وفجور . إن العالم باتت تحكمه شريعةُ الغاب ، وسياسات التهديد والإرهاب ، ولغة التحدّي والإرعاب ، مصالح ذاتية ، ونظمٌ أُحاديّة، تتعامل مع غيرها ، معاملةَ السيّد للمسود ، والقائد للمقود، سياسةُ مصالح لا قيم، سياسة لا تحكم بالسويّة، ولا تعدل في القضيّة .

أيها المسلمون : لقد بلغ السيل زُباه، والكيدُ مداه، والظلم منتهاه، والطغيان لا يدوم ، وسيَضمحلّ ويزول، والدهر يدور، وسيعلم الظالمون عاقبة الغرور. أين الذين التحفوا بالأمن والدَّعَة ؟ واستمتعوا بالثروة والسَّعة ، من الأمم الظالمة الغابرة ، والممالك الظاهرة القاهرة ؟ لقد نزلت بهم الفواجع، وحلّت بهم الصواعق والقوارع، فهل تعي لهم حِسًّا، أو تسمَعُ لهم ركزاً؟  فإلى المسبحين بحمد أمريكا ، إلى من ضمن انتصارها ، إلى من نسج تاج ملكها ، إلى من لا يخالجه أدنى شك في استحالة انتكاستها ، فأين الله ؟ هل نسيتم قدرته ، هل شككتم في جبروته ونقمته ، هل غابت عنكم سطوته ، هل تهزم قوته ؟ إننا ننتظر آية من الجبار ، ونؤمل نصرة من العزيز القهار . «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته» ثم قرأ صلى الله عليه وسلم ﴿وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

الخطبة الثانية :

أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أقوى ظهير ، وأوفى نصير، كلُّ أمر عليه يسير، وكلّ شيء إليه فقير، والأمور إليه تصير، وهو السميع البصير، لا يخفى عليه ما وقع على أهل الإسلام من الظلم الكثير ، والجور الكبير، وإنَّ الله على نصرهم لقدير.

عباد الله : أقربُ الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم، يرفعها الحيّ القيوم ، فوق الغيوم، فسبحان من سمع أنينَ المضطهدِ المهموم، و نداءَ المكروب المغموم، فرفع للمظلوم مكاناً، ودمَغ الظالم فعاد بعد العزّ مهاناً. «واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» الدعاء على الظالم أمر مشروع ، لا سيما إذا كان الظلم واقعاً على المسلمين، و الظالم كافراً .

مر أسد بن عبد الله القسري، والي خراسان، بدار من دور الخراج، وحوله مساكين يستجدونه، فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم ، ومر برجل يعذب في حبسه، ، فقال: إن كنت تعطي من ترحم، فارحم من تظلم، إن السماوات تنفرج لدعوة المظلوم، فاحذر من ليس له ناصر إلا الله ، ولا سلاح له إلا الابتهال إلى من لا يعجزه شيء. يا أسد: إن البغي مصرعه وخيم، فلا تغتر بإبطاء الغياث من ناصر، متى شاء أن يغيث أغاث، وقد أملى لهم كي يزدادوا إثماً.

ووجد أحمد بن طولون ، رقعة لم يعرف من رفعها، فإذا فيها : أما بعد، فإنكم ملكتم فأسرتم، وقدرتم فأشرتم، ووسع عليكم فضيقتم، وعلمتم عاقبة الدعاء، فاحذروا سهام السحر، فإنها أنفذ من وخز الإبر، لاسيما وقد جرحتم قلوباً قد أوجعتموها ، وأكباداً أجعتموها، وأحشاء أنكيتموها، ومقلاً أبكيتموها، ومن المحال أن يهلك المنتظِِرون ويبقى المنتظَرون، فاعملوا إنا عاملون، وجوروا إنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون ﴿وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ فبكى هذا الأمير بكاء شديداً، وجعل يتعهد قراءتها في غالب أوقاته، ويستعين بها على إجراء عبراته.

لا تظلمن إذا ما كنت مقتــدرا *** فالظلم آخـره يأتيك بالنـدم

واحذر أخي من المظلوم دعوته *** لا تأخذنك سهام الليل في الظلـم

نامـت عيونك، والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعيــن الله لم تنم

أيها المسلمون، الدهرُ طعمان ، والأيام طرفان ، وكلّ شدّة إلى رخاء، وكل كربة فإلى انجلاء، وإنَّ بعد الكدر صفوًا، وبعد المطر صحوًا، والشمس تغيب ثم تشرق، والروض يذبل ثم يورق، ومن عرف الله في الرخاء ، عرفه في الشدائد، وصرف عنه المكائد، وحفظه وهو قائم وراقد ، فتحلَّوا بالطاعة، والتزموا الجماعة، وعليكم بالجد والعمل، واعلموا أنَّ أحسن الجُنة ، لزومُ الكتاب والسنة ، على نهج سلف الأمة .