السعادة وأسبابها

بسم الله الرحمن الرحيم

السعادة وأسبابها

يبحث الناس عن السكينة والطمأنينة ، وينشدون السعادة والرضا ، ويبتغون السرور والحبور . و يخطئ كثير من الناس ، ممن قل علمه ، وقصر فهمه، إذ يظنون أن طيب الحياة ، وسعادة المعيشة ، يتحققان لمن تيسرت له متع الدنيا ، من شهي المآكل، وبهي الملابس، وعامر القصور، و فاره المراكب، يظنون السعادة في المال الوفير ، والقناطير المقنطرة والدنانير، يظنونها في منصب يرفع العبد على الناس، فيصبحون له خدماً ، يظنونها في صحة الجسم، فلا يمرض ولا يجوع ولا يبأس ، يظنونها في كثرة المعجبين ، فيسعى أحدهم لكي يكون لاعباً مشهوراً ، أو مفحطاً معروفاً ، يقضي ساعاته في توجيه الناس إليه، ليصبح حديث الركبان، وشاغل الدنيا، وذاك يظن أن السعادة في الفن، فيدغدغ الغرائز، ويلعب بالمشاعر، ويفتن القلوب، ويسكب الغرام في النفوس، فيحمّله الله ذنوب من أغواهم، دون أن ينقص من ذنوبهم شيئاً، انظروا إلى خواتيمهم ، و تأملوا في نهاياتهم ، هذا يموت في المسرح ، وذاك في الملعب ، وقارنوا بينهم وبين من يموت في ساحات الوغى ، مجاهداً في سبيل الله ، مجالداً أعداء الله ، وبين من يموت راكعاً أو ساجداً ، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه . ويظنها البعض في الأسفار ، ولو إلى بلاد الكفار ، وآخرون يبحثون عنها في المسكرات والمخدرات ، وفي دور الخنا وعند المومسات ، وفي المراقص والبارات ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾ ﴿وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾.

لقد طلب السعادة أقوام من طرق منحرفة، فكانت سبباً لهلاكهم، طلبها فرعون في الملك، ولكنه ملك بلا إيمان، وتسلط بلا طاعة، فتشدق قائلاً أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ونسي أن الذي ملكه هو الله، ومع ذلك يقول: ما علمتُ لكم من إله غيري فكان جزاء هذا العتو والتكبر ، أنه لم يتحصل على السعادة التي طلبها، بل كان نصيبه الشقاء والهلاك فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ويمنح الله قارون كنوزاً كالتلال ، ينوء عن حمل مفاتحها العصبة من الرجال ، وظن أنه حاز السعادة ، وكفر نعمة الله، وقد حذره مولاه، فأبى وأصر على تجريد المال من الشكر، والسعي في الأرض فساداً، فكان الجزاء فخسفنا به وبداره الأرض

أيها المسلمون : إن السعادة شيء لا يرى بالعين ، ولا يقاس بالعدد ، ولا تحويه الخزائن ، ولا يشترى بالدرهم والدينار . السعادة شيء داخل الوجدان ، يغتبط به الجنان ، ويمتلئ به الجنبان . صفاء في النفس ، وطمأنينة في القلب ، وانشراح في الصدر ، وراحة في الضمير ، وهدوء في البال ، إنها شعور بالغبطة ، وإحساس بالطمأنينة ، وانطلاقة نفس في سكينة ، مصدرها القلب ، ومظهرها الرضى ، ودليلها إدراك النعمة والاعتراف بها.

وجدها يونس عليه السلام ، وهو في ظلمات ثلاث ،حين انقطعت به الحبال، إلا حبل الله، وتمزقت كل الأسباب، إلا سبب الله، فهتف من بطن الحوت، بلسان ضارع حزين: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين

و وجدها موسى عليه السلام، فرعون من خلفه ، وهو بين ركام الأمواج ، يستعذب المخاطر في سبيل الواحد الأحد: ﴿كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ

ووجدها محمد ، وهو يطوّق في الغار ، بسيوف الكفار، ويرى الموت رأي العين، ثم يلتفت إلى أبي بكر ويقول لا تحزن إن الله معنا

 ووجدها شيخ الإسلام، وهو يكبّل بالحديد، ويغلق عليه الباب، داخل غرفة مظلمة، فيقول: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنا سرت فهي معي. إن قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة.

ووجدها إبراهيم بن أدهم، وهو ينام في طرف السكك في بغداد، لا يجد كسرة الخبز ويقول: والذي لا إله إلا هو، إنا في عيش، لو علم به الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف!.

هذه هي السعادة، وهذه أحوال السعداء، ولا يكون ذلك إلا في الإيمان والعمل الصالح ، من أراد السعادة فليلتمسها في المسجد ، في الذكر و التلاوة، و الهداية و الاستقامة ، و في إتباع محمد عليه الصلاة والسلام. من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون

الخطبة الثانية

أيها المسلمون: إن طيب الحياة، والسعادة بعد الممات، لا تكون بكثرة الأموال وتنوع الممتلكات، ولا بالتمكن من الشهوات، مع الغفلة عن حق رب الأرض والسماوات، والمطلع على الضمائر و النيات، وإنما تكون بطاعة رب العالمين، المبنية على الفقه في الدين، والإخلاص لله ومتابعة رسوله الأمين، وذلك بأداء فرائض الطاعات، وتكميلها بالنوافل المستحبات، واجتناب الكبائر الموبقات، والحذر من الصغائر المحقرات، واتقاء الشبهات، وسؤال الله الثبات على الحق حتى الممات.

عباد الله : جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافاً ، و قنعه الله بما آتاه». فجعل هذه الثلاث عنوان الخير والفلاح، وبها يحصل الفوز والنجاح، فإن من جمعها ، فقد جمع خير الدنيا والآخرة، وتمت عليه النعمة الباطنة والظاهرة، وبها الحياة الطيبة في هذه الدار ، والسعادة الأبدية في دار القرار.

أما الهداية للإسلام : فبه العصمة والنجاة ، وأما الكفاف : فإن من أصبح آمنا في سربه ، معافاً في بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وأسعد الناس ، من عنده رزق يكفيه ، وبيت يؤويه ، وزوجة ترضيه ، وسلم من دَين يثقل كاهله ويؤذيه «من كان همه الآخرة ، جمع الله عليه أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وآتاه الدنيا وهي راغمة، ومن كان همه طلب الدنيا ، جعل الله فقره بين عينيه ، وشتت عليه أمره ، ولم يأتيه من الدنيا إلا ما كتب له» المؤمن تغمره السعادة لأنه موقن بأن الحياة محكومة بأقدار الله ، فلا يأسى على ما فات ، ولا يفرح بما أوتي ، لا يستسلم للخيبة ، ولا يهلك نفسه تحسراً ، بل كل مواقف الدنيا عنده ابتلاء ، ولئن زلزلته وقائع البلوى ، رده الإيمان إلى برد اليقين . المؤمن يجد السعادة بين التوكل والعمل الصالح ، لا يزعزعه جزع ، ولا يرهقه قلق ، يعمر الحياة نشاطاً ، ويملؤها جهاداً . السعداء مؤمنون عاملون ، وعلى ربهم متوكلون ، وبحكمته واثقون ، وبأقداره موقنون ، راضون بما قسم الله ، من غير يأس يدخل قلوبهم ، ومن غير حقد يأكل أفئدتهم ، ومن غير حسد يأتي على حسناتهم . فعبوا السعادة عباً ، ونزلت عليهم السكينة تنزلاً .

قال ابن القيم رحمه الله : إن في القلب لشعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله ، وإن فيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله ، وإن فيه حزناً لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله ، وصدق معاملته ، وإن فيه قلقاً لا يسكنه إلا الفرار إليه ، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ، ودوام ذكره وصدق الإخلاص له ، وفيه حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه ، والصبر على قضائه إلى يوم لقائه.