الانهزامية

بسم الله الرحمن الرحيم

الانهزامية

فلقد سبق الكلام في الجمعة الماضية عن الانهزامية ، وشيء من صورها ، التي ظهرت عند بعض المسلمين . ونواصل الحديث عن بعضها .

فمن صور الانهزامية ، ما يحدث في مثل هذه الأيام ، من كل عام ، ألا وهو السفر إلى بلاد الكفار ، بدعوى السياحة ، ونسوا أو تناسوا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم «أنا بريء من مسلم يبيت بين ظهراني المشركين» ما سافروا لعلم نافع لا يوجد عند المسلمين ، ولا سافروا لدعوة يتقربون فيها لرب العالمين ، ولا لطلب علاج تعذر وجوده في ديار المسلمين ، ما خرجوا إلا للنزهة والسياحة ، والتعرف على ثقافات الآخرين ، و التجول في الديار ، ورؤية الآثار ، وقد نهوا عن ذلك على لسان سيد الأولين والآخرين ، وتعظم المصيبة إذا كان السفر بالعائلة ، فإنه يصاحبه الكثير من المحاذير ، فمن أجاز كشف الوجه للتصوير ؟ ثم مخالطة الكفار تؤدي ولا شك ، إلى ضعف عدائهم ، و زرع محبتهم ، والتأثر بثقافاتهم ، والمطالبة ببعض ما عندهم ، من التقدم المزعوم ، والحضارة البراقة ، وانظروا إلى المطالبين اليوم بالتحرر من قيود الدين ، تجدونهم ممن درس في الغرب ، أو كثر تردده على ديارهم . ومن آثار السفر الضارة : ضعف الغيرة ، وإماتة الحياء ، وقتل الرجولة ، يتمثل ذلك ، فيما يقام هناك من السهرات ، وكشف وجه المرأة ، ومشاهدة الخمور و دور الدعارة . ولسان حالهم يقول ﴿هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً

ومن مظاهر الهزيمة : المجال الإعلامي ، يتمثل ذلك في التناقض الواضح فيما يقدمه الإعلام ، فقد ترى أو تسمع برنامجاً دينياً ، يعلن فيه صراحة تحريم الغناء ، وما إن ينتهي ، حتى يعقبه مغن يتمايل ، أو مغنية عابثة . ومن ذلك ، جعل قنوات دينية وأخرى إباحية ، أما علموا أننا في مجتمع لا يقبل بغير الدين ، في العبادات والمعاملات ، والإعلام والتعليم ، وسائر مناحي الحياة ، يجب أن تنصبغ حياتنا بالدين ، وأن تحكم تصرفاتنا بأوامره ونواهيه ، فليس لدينا أنصاف حلول ، نطبق الشرع متى شئنا ، ونعرض عنه إذا رغبنا ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ ومن مظاهر الانهزامية في الإعلام ، تقديم الإعلام بكل قنواته للساقطين والساقطات ، من المغنين والمغنيات ، والممثلين والممثلات ، واللاعبين واللاعبات ، على أنهم القدوات ، و النخبة و الصفوة، ليكونوا مثلا أعلى للشباب ، فيحرص المخدوعون على تقليدهم ، وتتبع أخبارهم ، وملاحقة أنشطتهم ، والتشبه بهم .

ومثل ذلك ما تقوم به بعض الصحف والمجلات ، من الدعوة إلى الرذيلة ، والقضاء على الفضيلة ؛ من تتبع أخبار الجرائم ، وروايتها بتفاصيلها المثيرة الدقيقة، ونشر القصص الجنسية الفاضحة، وإغراء القراء واستثارتهم ، وإشاعة الفاحشة بين الناس، مما يؤدي إلى تهوين الجريمة ، وتعويد المجتمع عليها عن طريق تكرارها . ولسان حالهم يقول ﴿هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً

أما مظاهر الانهزامية عند المرأة : فإن تقليدها للكافرات أوسع دائرة ، وأشد ضررا وأعظم خطرا ، فإذا استسلمت لداء التقليد ، لم تعد تلك المسلمة المعتزة بإسلامها ، الحريصة على تخريج مسلم من بيتها ، وإنما تتحول إلى غربية تعيش في ديار الإسلام ؛ فتخرج لنا غربيا ، لا يربطه بأمته ودينه إلا المكان ، المرأة وما أدراك ما المرأة، ذلك السلاح الفتاك، والأمر الخطير، جلبوا بخيلهم ورجلهم لإضلالها، ساعين لإذلالها، زاعمين رقيها وتقدمها، أرادوا أن تكون نسخة للأجنبية، كاسية عارية، مائلة مميلة، سخابة بالأسواق، مختلطة في الأعمال، كاشفة للوجه، متنكرة للحجاب، مطالبة بالبطاقة، قائدة للسيارة، هذا هوالتقدم، وتلك هي الحضارة، وهي والله الحضيرة، حجتهم بأنها مظلومة، وفي البيت مكبوته، لكن الغربية ، متفتحة متعلمة ، متطورة مثقفة ، ولسان حالهم يقول ﴿هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً﴾ فقلدت بعض المسلمات ، المرأة الكافرة في أشياء كثيرة ، قلدتها في السفور ، وانتهاك حرمة الحجاب،وقلدتها في التبرج ؛ وراحت تغير خلق الله فتزيل ما كان موجودا، وتضيف ما كان معدوما ؛ تزيل شعر الحاجبين ، وتضيف شعر الباروكة ؛ في تحد صارخ للفطرة، وفي ثورة عنيفة على الطبيعة، وفي استجابة محمومة لأصحاب مصانع أدوات التجميل ، والمساحيق والأصباغ ، وقلدتها مرة أخرى في اللباس ، فراحت تتابع الغربية ، في أمر لباسها حذو القذة بالقذة: إن لبست قصيرا لبست قصيرا، وإن لبست طويلا لبست طويلا، وإن لبست ضيقا لبست مثلها، وإن لبست واسعا لبست كذلك، وراحت في تقليدها إلى أبعد من ذلك ؛ فجعلت للصباح لباسا معينا، وللظهيرة لباسا محددا، وللمساء لباسا آخر ، وللسهرة ما يختلف عنها جميعا ، واستمرت في مسار التقليد حتى بلغت نهايته؛ فخلعت ملابسها كلها إلا ما يستر السوأة ، وما بدأ يظهر في الآونة الأخيرة ، في قصور الأفراح ، من كشف البطون والظهور ، والأكتاف والنحور ، شاهد على ما أقول .

فاتقوا الله عباد الله ، واخشوا زوال نعمته ، وتحول عافيته ، وفجاءة نفمته . أقول

الخطبة الثانية:

وقلد المهزومون أعداءهم في المأكل والمشرب ، قلدوهم في أنواعه ، وطريقة إعداده، وما انتشار المطاعم الأجنبية ، في ديار المسلمين إلا خطوة من خطوات التغريب ، تأملوا في أسماء الأكلات ، وأنواع الوجبات ، هل أسماؤها إسلامية ؟ ثم قلدوهم في طريقة الأكل باليد اليسرى ، التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يأكل بها فقال له: «كل بيمينك، فقال: لا أستطيع، فقال: لا استطعت فما رفعها إلى فيه».

وقلدهم بعضنا في مرض اجتماعي ، دمر حياتهم، وأفسد أمزجتهم، وحطم الأسرة في ديارهم، وقام عقلاؤهم يشكون منه مُرَّ الشكوى، ذلك هو داء الاختلاط ، الذي بعث الشهوات من مرقدها، وأشعل نارها ، وأوقد فتيلها ، فتحطمت بسببه العلائق الأسرية، وتهدمت البيوت المحافظة ، وضاعت الأخلاق ، اختلاط في الشوارع والمكاتب ، والمصانع والمدارس ، والجامعات والنوادي ، ثم خلوة ، فسقوط في الفاحشة ، وقد حذرنا نبيناصلى الله عليه وسلم من الخلوة المحرمة: «ما خلا رجل بامرأة ، إلا كان الشيطان ثالثهما»

وتنازل بعضنا في انهزام مكشوف ، عن توقيتنا الهجري إلى توقيتهم الميلادي ؛ بدعوى مسايرة المصارف العالمية ، والإجازات الدولية ، وهذه هي الانهزامية .

ومن أعظم قيمنا الإسلامية التواصل الأسري ، الذي بدأ يحل محله التفكك شيئاً فشيئاً ، لقد كان مجتمعنا مترابطا متقاربا، تسوده الألفة ، وتغشاه المحبة ، يبر أحدنا والدية ، ويصل رحمه ، ويحسن إلى جاره ، ويسأل عن أخيه ، إن لقيه سلم عليه ، وإن دعاه أجابه ، وإن مرض عاده ، وإن مات اتبع جنازته . لكن التقليد آتى ثماره ، وظهرت نتائجه ، بدأ هجر الجيران ، والعداوة بين الأقارب ، والاعتداء على المحارم ، ولقد أصبحنا نسمع من يرد على أبيه ، ويسفه رأي والدته ، بل وسمعنا أكبر من ذلك ، فهناك من يضرب والديه ، بل تعدى الأمر إلى أعظم من ذلك ، وصل الأمر يا عباد الله إلى أصبحنا نسمع بين الحين والآخر ، بأن فلاناً قتل أباه ، أو أن فلانة قتلت أمها ، من أين جاء هذا الداء يا عباد الله ؟ ألم يشاهدوه قبل ذلك في المسلسلات ؟ ألم تعج به القنوات ؟ ألم تروج له الأفلام ؟ ألم تبين طريقته بعض وسائل الإعلام ؟

هذه بعض المظاهر ، وعند التأمل يظهر أكثر ، وهذا ما سيحدث في الجمعة القادمة إن شاء الله من سرد بعض ما ابتلي به بعضنا ، يحذر العاقل ، وليعلم الجاهل ، ويتنه الغافل .