الانهزامية عند المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم

الانهزامية عند المسلمين

فإن من أعظم ما أصيب به المسلمون اليوم ، ماسيطر عليهم من روح الانهزام أمام أعدائهم ، وضعف الهمة عن المقاومة والمغالبة ، والعجز عن مجرد التفكير في ذلك ، حتى بلغت الأمة الإسلامية في ذلك مبلغا عظيماً ، من الانحطاط والتخلف ، فرضيت بالقعود ، واستسلمت للغزاة ، وتخلفت عن القيام بالواجب ، واستحْلَت الإخلاد إلى الدعة والراحة ، والسكون والمهادنة ، طمعا في العاجلة وفرارا من المواجهة ، ورغبة في المزيد من الانغماس في الترف ، الذي غرفت في أوحاله ، وانطبعت به حياتها.

إن هذه الروح الانهزامية ، التي انتشرت في أوساط الأمة الإسلامية ، لأخطر عليها من كل سلاح ، بل لقد قامت وحدها مقام كل سلاح يمكن أن يغزوها به أعداؤها. إذ حققت لأولئك الأعداء ما لم يكونوا ليستطيعوا تحقيقه بالقوة والبطش والجبروت ، بل تحقق ما هو أكثر من ذلك ، بالانبهار بالقوم والشعور بأنهم أصبحوا السادة والقادة والرواد ، وأن ما وصلوا إليه من تقدم علمي ، وتفوق تقني ، يخولهم لأن يصبحوا كذلك ، وأنهم لم يحققوا ما حققوه من ذلك إلا لقدراتهم الفائقة ، ومستوياتهم العقلية المتميزة ، وذكائهم الفريد ، وتميزهم على غيرهم في كل شيء.

فماذا يريد العدو من عدوه ، أكثر من أن يشعر بعلو قدره ، وعظم شأنه ، وكونه الأجدر بالريادة ، والأحق بالسيادة ، ورضاه بطواعية واختيار ، أن يكون موقفه إزاءه ، موقف التابع من المتبوع ، بل موقف العبد من سيده ، يأمره فيطيعه ، وينهاه فلا يعصيه ، يشعر بضعفه أمامه ، وذلته بين يديه ، واحتياجه إليه في كل وقت وحين.

اجتمعت هذه الفتن على المسلمين فزلزت إيمانهم ، وحيرت وجدانهم ، وأزاغت أبصارهم ، وغزت عقولهم ، فإذا هم أجساد تنبض بقلوب الغرب ، وتفكر بعقولهم ، وإذا هم مستسلمون لكل ما يصدر عن عدوهم ، منقادون لكل ما يأمرهم به ، متهافتون على كل ما اتصل به ، ثم إذا هم أذلاء مقلدون ، يحقرون أنفسهم وآباءهم وميراث حضارتهم وتاريخهم.

إن المتتبع لتاريخ الأمة الإسلامية ، المتمعن في الصفحات الذهبية ، من سجلها الحافل ، تأخذه الدهشة كل مأخذ ، وهو يقرأ أمجادها الزاهية ، في تلك الصفحات المضيئة ؛ تمثلا بالإسلام ، وتخلقا بالقرآن ، وتعلقا بالآخرة ، وتفلتا من الدنيا ، وجهادا في سبيل الله ، ونشرا لدين الله ، وبيعا للأنفس على الله ، وحرصا على هداية الناس إلى رحاب هذا الدين.

يقرأ كل ذلك ويتصوره ، ويعيشه بخياله ، ثم يعود إلى واقعه الذي يحياه ، فلا يرى من ذلك شيئا ، فيسأل نفسه : أين تلك الأمجاد ؟ أين تلك الصور الزاهية ، التي كانت تعطر أجواء التاريخ ؟ أين أولئك الرجال ، الذين صنعوا الأمجاد ؟ فيرتد إليه طرفه خاسئاً وهو حسير ، يرى أمة قد غرقت في حب أعدائها ، وتبجيل قاهريها ، والتبجح بتقليد أفعالهم ، ومحاكاة تقاليدهم . صور شتى لمظهر واحد من مظاهر الهزيمة ، سميناه التقليد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سماه بـ "اتباع السَّنن" في الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟»

وإليك صوراً محزنة ، تبين ما وصل إليه بعض المسلمين ، من التخلف والرجعية ، والتخاذل والانهزامية .

فإذا تأملت إلى الحاكمين بغير شرع الله ، رأيتهم يحكمون بالقوانين الوضعية ، ويرضون بالتشريعات البشرية ، مقلدين قانوناً غربياً ، أو دستوراً بشرياً ، أما يكفيهم شرع الله ؟

ثم انظر إلى أولئك المتأثرين بالغرب وأفكاره في المعاملات ، فلا يؤمنون إلا بالربا سبيلاً للتعاملات التجارية ، فإذا قيل لهم حرم الله الربا قالوا إنما البيع مثل الربا ، فدعوا عنكم قديم العادات ، ولسان حالهم يقول ﴿هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً

وإذا نظرت إلى لباس شبابنا وشعورهم ، هالك سوء المنظر ، فمن قصات إلى قبعات ، ومن بدلات إلى رقصات ، بمن يتشبهون ؟ ومن يقلدون ؟ ولسان حالهم يقول ﴿هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً﴾ ما ربوا على منهاج نبيهم ، و ما ربطوا بأسلافهم. انشغلوا بالترهات ، وتغاضوا عن معالي الأمور.

الخطبة الثانية :

وإذا انطلقت إلى التربية ، رأيتهم يقتفون آثار الكفار ، وينهجون سبيلهم ، ويتبجحون بتقليدهم ، ويبعثون البعثات ، وينفقون طائل الأموال ، لدراسة طرق الكفار في التربية ، وكأننا أمة مبتورة ، لا يربطها بالوحي رابط ، وليس في تاريخها نماذج ، أينهم من درس نوح مع ولده ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا﴾ و أينهم من دروس إبراهيم مع والده ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ و مع ولده ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ وإلى استسلام إسماعيل لأمر الله بعد أن آتت التربية ثمارها ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ وإلى دروس لقمان وتربيته لابنه ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ ثم تابع بقية الآيات لترى في ديننا كنوزاً عظيمة ، ونفائس نادرة ، لو استخرجناها ، ثم قلب طرفك في سيرة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع» وتأمل تربيته لابن عباس «يا غلام إني أعلمك كلمات» وتفكر فيه وهو ينزل من المنبر ليحمل ولده ، و هو يمازح الصغار «يا أبا عمير ما فعل النغير» ، وهو يدعو الطفل اليهودي للإسلام في اللحظات الأخيرة ، والتاريخ مليء بمثل ذلك أفلا يستحق الدراسة والتأمل ، أم إننا تعودنا على التأكل من موائد القوم ، وتلقف زبالات أفكارهم ، وعقيم تربيتهم ، التي أنشأت لهم جيلاً متحللاً من القيم ، بعيداً عن الأخلاق ، جرائمهم في المدارس بالمئات ، قتل واغتصاب ، جرائم وإرهاب ، تسكع وبطالة ، وقوع في المخدرات ، حتى فشت فيهم الأوجاع ، أبمثلهم يقتدى ؟ ام بطبعهم يحتذى ؟ لكن لسان حال المهزومين يقول ﴿هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً﴾ وإذا نظرت إلى التعليم ، رأيت تناقضاً عجيباً ، فمن دعوة للوطنية ، وغرس لمبادئها نظرياً ، إلى مخالفة ذلك عملياً ، تمثل ذلك في التنكر لقيم الأمة وعاداتها ، وكريم سجاياها. وكأن ليس لدينا تجارب رائدة في التعليم ، ولنا في تجربة الرئاسة العامة لتعليم البنات خير شاهد على ما نقول ، فلقد تبنت طريقاً لم تسبق إليه في تعليم الفتاة ، ما قلدت فيه الغرب ، ولا سلكت سبيل الشرق ، ولقد أثنى على تجربتها عقلاء القوم. حتى طالب أحد زعمائهم قبل أيام بفصل البنين عن البنات. ومن الانهزامية في التعليم ، فرض لغة القوم على أبناء المسلمين في المرحلة الابتدائية ، بدعوى أنها لغة العلم ولا يمكن التطور بدونها ، ولا يصلح الاختراع إلا بها ، ونسوا أو تناسوا تجربة سوريا الرائدة في اعتماد اللغة العربية في كلية الطب ، فهل رأيت طبيباً سورياً تأخر عن الركب ؟ أو ما واكب التطور ؟ أو كانت اللغة العربية عقبة في طريقه ؟ وهل أتقن طلابنا اللغة العربية ؟ كتابة وقراءة حتى يشغلوا بلغة أخرى ؟ لكنها الانهزامية ، ولسان حالهم يقول ﴿هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً﴾. عباد الله : إن لدينا من الطاقات والقدرات ، والثوابت والقدوات ، ما يغنينا عن تقليد غيرنا ، إننا بإذن الله قادرون على أن نقوم بواجبنا ، ولكننا لا نستفيد من كل ذلك بل رضينا بالتبعية والخنوع.

ولم أر في عيوب الناس عيباً *** كنقص القادرين على التمام

أما الخلاص من هذا الداء ، والعلاج والدواء ، فيتمثل في أمور ، منها طريق التربية والتعليم : فهي حقل مهم ، لتنشئة شباب الأمة على العزة والكرامة ، عن طريق المعلم القدوة ، والكتاب المدرسي الناصح ، والمنهج المقرر ، الذي وعى واضعوه دورهم ، وأمانتهم الكبرى ، ومسئوليتهم العظمى ، عن أغلى ما تملكه الأمة ، وهم أبناؤها وشبابها ، أمل حاضرها ، وعدة مستقبلها . وطريق التوعية والإرشاد ، عبر كل الوسائل المتاحة ، والأساليب الممكنة ، للتأثير بها في الأمة ، لتوعيتها بأضرار الهزيمة النفسية ، ومخاطر الشعور الداخلي بالضعف والهوان ، ويدخل في هذا الطريق ربط الأمة بتاريخها ، وتذكيرها بأمجادها ، لإيقاظ شعورها بعزتها ، وفخرها بانتمائها لدينها ، ليتبع ذلك اعتزازها بأصالتها ، ورفضها لكل دخيل من العادات والتقاليد ، ولكل مستورد من المبادئ والأفكار .