الانتفاع بالمواعظ

بسم الله الرحمن الرحيم

الانتفاع بالمواعظ

الحمد لله

عباد الله : بين أمواج الفتن والشهوات، التي عمت بلاد المسلمين، وانتشرت في مجتمعاتهم، يحتاج المسلم إلى ما يقوي إيمانه، ويذكره بآخرته، ويزهده في دنياه، ويربطه بخالقه وإلهه ومولاه، لذلك شرعت الخطب والمواعظ، التي تذكر الغافل، وتوقظ النائم، وتكون سلوة للإنسان، ومعيناً للوسنان .

فنحن عباد الله في هذا الزمن، لم يعد خافياً على الناس كثير من الحلال والحرام، ولم يعد خافياً عليهم ما يكاد لهم من الأعداء، لتعدد وسائل المعرفة، ولكن الذي ابتلي به كثير من الناس اليوم، هو الغفلة عما خلقوا له، فاحتاجوا إلى ما يطرد هذه الغفلة من قلوبهم، ولقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على تذكير أصحابه، يقول العرباض بن سارية : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب . فينطلق الصحابة بعد ذلك عاملين بعدما علموا، مجاهدين بعدما أيقنوا، نائلين ما تمنوا بعدما صبروا، يسمع أحدهم الآية، فيبادر عاملاً بمقتضاها، مستجيباً لمرادها، فهذا عمر بن الخطاب يأتيه رجل فيغلظ عليه القول حتى هم به عمر، فقيل له : يا أمير المؤمنين : إن الله سبحانه يقول ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ وإن هذا من الجاهلين . فحين سمع عمر الآية سكت ما به من الغضب، ويصفه الراوي بقوله : وكان وقافاً عند كتاب الله . وهؤلاء صحابة رسول الله حين نزل تحريم الخمر وأتاهم المخبر بذلك، لم يجرؤ أحد منهم أن يشرب ما كان بيده، وما كان منهم إلا أن أهرقوا ذلك في الشوارع .

وهؤلاء نساء الأنصار تصفهن عائشة رضي الله عنهن أجمعين حين نزلت آية الحجاب بأنهن شققن مرطهن فاعتجرن بها، فأصبحن كأن على رؤوسهن الغربان .

فإذا كان هذا حال أقوى الناس إيمانا، وأشدهم تمسكاً، وأسرعهم اتباعاً، فنحن أولى بالمواعظ، وأشد حاجة للتذكير . فقد كثر من يدعو إلى الضلالة، ومن يحسن البدعة والخرافة، ويروج للدجل والشعوذة.

ولكن هذه الأمور تقوى على من بعد عن ربه، وضعف إيمانه، وفتح باب قلبه، ونافذة عقله . وأما من كان مؤمناً بربه، ثابتاً على عقيدته ودينه،يرتاد أماكن الموعظة والطاعة، ويبتعد عن أماكن السوء والمعصية، وينبذ كل دخيل، ويطرح كل خبيث، فإنه في معزل عن ذلك كله.

عباد الله : إن كثيراً من الناس اليوم، يسمعون التذكير والمواعظ في كل مناسبة، غير أن أحاسيسهم قد تبلدت، إلا من عصم الله وقليل ما هم، فكأنهم استهوتهم الخطب الرنانة، التي نالت إعجابهم، غير أنا إذا فتشنا عن التغييرات التي تحدثها تلك الخطب والمواعظ في واقع الناس، نكاد لا نلمس شيئاً يتناسب مع حجمها . ثم إذا ما أنعمنا النظر في مسببات ذلك، فإذا هي قلة العمل والتطبيق بما نسمع .

ولا شك عباد الله : أن هناك مسببات لهذا السلوك، بعضها يرجع إلى المتكلم وبعضها يرجع إلى السامع : أما المتكلم فإنه متى كان عاملاً بعلمه، متعظاً بموعظته، فإنها تفيد السامع بحول الله وقوته، يقول مالك بن دينار رحمه الله : إن العالم إذا لم يعمل، زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفاة . ويقول سفيان الثوري : يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل . وكان سفيان بن عيينة يتمثل بهذين البيتين :

إذا العلم لم تعمل به كـان حجة *** عليك ولم تُعذر بما أنت جاهـله

فإن كنت قد أوتيت علماً فإنمـا *** يصدق قول المرء ما هو فاعلـــه

ويكفي في ذلك استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم فيما خرجه ( م ) قال : «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» .

وأما الأسباب التي ترجع إلى السامع، فإن كثيراً من الناس أصبحوا يعجبون بالقول فقط، ولا يكترثون بالعمل . وقد قال القاسم بن محمد رحمه الله : أدركت الناس وما يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل . وروي أن عيسى عليه السلام قال للحواريين : لست أعلمكم لتعجبوا، إنما أعلمكم لتعملوا ، وليست الحكمة القول بها، وإنما الحكمة العمل بها .

عباد الله : ما كان سلفكم الصالح يعرفون سوى العلم والعمل مباشرة، أما اليوم فيصيح الصائح، وينكر المنكر، ويعظ الواعظ، وينصح الناصح، ويخطب الخطيب، وقلما يوجد من يمتثل، مواعظ تذيب الجبال الصم الصلاب، وتتصدع لها أفئدة أولي الألباب، وجودها وعدمها عندهم سواء، قوم انتهى ظلمهم، واشتد شقاؤهم، ولا شك بأن هذا من المرض الذي أصاب القلوب، وحب العاجل الذي ألم بالنفوس، وضعف اليقين بما عند الله من الثواب الجزيل لمن أطاعه، والعقاب الجسيم لمن عصاه ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .