الأقصى والأمل

بسم الله الرحمن الرحيم

الأقصى والأمل

الحمد لله معز الإسلام بنصره ، ومذل الشرك بقهره ، ومصرف الأمور بأمره ، ومديم النعم بشكره ، ومستدرج الكافرين بمكره ، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله ، وأفاء على عباده من ظله ، وأظهر دينه على الدين كله ، أحمده على إعزازه لأوليائه ، ونصره لأنصاره ، وتطهيره بيته المقدس ، من أدناس الشرك وأوضاره _ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلا، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان .

أيها المسلمون: المستقبل لدين الله، والعزة لأوليائه ، و إن حقائق اليوم ، هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم ، هي حقائق الغد، والضعيف لا يظل ضعيفاً ، والقوي لا يستمر قوياً ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ إننا نملك الإيمان بنصر الله للمؤمنين، وثقة بتأييده للموحدين، ويقيناً بسنته في إحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، ولو كره المجرمون، واطمئناناً إلى وعده ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا

سنة الله ولن تجد لسنة الله تحويلاً، ولا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق منصورة ، لا يضرها من خالفها، وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر ، إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز أو بذل ذليل.

وآية الآيات في هذا الدين ، أنه أشد ما يكون قوة ، وأصلب ما يكون عوداً ، وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً ، حين تنزل بساحته الأزمات ، وتحدق به الأخطار و المدلهمات ، وتشتد على أهله الكربات ، وتضيق بهم المسالك ، وتوصد عليهم المنافذ _ حينئذ ينبعث الجثمان الهامد ، ويتدفق الدم في عروق أبنائه ، يقول فيُسمع ، ويمشي فيُسرع ، ويضرب في ذات الإله فيوجع، فإذا النائم يصحو، وإذا الغافل يفيق ، وإذا الجبان يتشجع، وإذا الضعيف يتقوى _ وإذا بهذه القطرات المتتابعة ، من هنا وهناك ، من جهود القلة ، تكون سيلاً عارماً ، لا يقف في وجهه حاجز _ إن هذه الأمة تمرض ، لكنها لا تموت، وتغفو ، لكنها لا تنام _ فلا تيأسوا، فإنكم سترون عزّكم بإذن الله

أيها المسلمون : مسجد من أعظم المساجد الإسلامية حرمة ، إنه المسجد الذي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، ليعرج به إلى السماوات العلى ، إلى الله جل وتقدس وعلا _ إنه لثاني مسجد وضع في الأرض ، لعبادة الله وتوحيده ، ففي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال:«قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة». وإنه لثالث المساجد المعظمة في الإسلام التي تشد إليها الرحال .

وفي ضحى يوم الجمعة في شهر شعبان سنة 492هـ: دخل ألف ألف مقاتل من النصارى بيت المقدس ، فارتكبوا فيه أبشع الجرائم ، لبثوا فيه أسبوعاً يقتلون المسلمين ، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألف ، منهم الأئمة والعلماء ، والمتعبدون والمجاورون ، جاسوا فيها خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيراً، ثم وضعت الصلبان على بيت المقدس ، وأدخلت فيها الخنازير، ونودي من على مآذن لطالما أطلق التوحيد من عليها، نودي: إن الله ثالث ثلاثة ـ تعالى الله وتبارك عما يقولون علواً كبيراً _ وتباكى المسلمون في كل مكان ، وظن اليائسون أن لا عودة لبيت المقدس أبداً إلى حظيرة المسلمين.

ويمضي الزمن وبعد تسعين عاماً ، أعد صلاح الدين جيشاً لاسترداد بيت المقدس وتأديب الصليبيين ،

يا أيها الملـك الذي *** لمعالـم الصلبـان نكّس

جاءت إليك ظُلامة *** تسعى من البيت المقدس

كل المساجد طهرت *** وأنـا على شرفي أدنس

وعندما علم الصليبيون بعزم المسلمين ، تصالح ملوك النصارى ، وجاؤوا بحدهم وحديدهم ، فتقدم صلاح الدين إلى طبرية ، فصارت البحيرة إلى حوزته ، وأصبح النصارى في عطش عظيم _ عندها تقابل الجيشان ، وتواجه الفريقان ، وأسفر وجه الإيمان ، واغبر وجه الظلم والطغيان ، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان ، عشية يوم الجمعة ، واستمرت إلى السبت _ إذ طلعت عليهم الشمس واشتد الحر، وقوي العطش، فاجتمع عليهم حر الشمس ، وحر العطش ، وحر السلاح ، وحر رشق النبال _ وقام الخطباء يستثيرون أهل الإيمان ، ثم صاح المسلمون وكبروا ، تكبيرة اهتز لها السهل والجبل ، ثم هجموا كالسيل ،لينهزم الكفار ، ويؤسر ملوكهم ، ويقتل منهم ثلاثون ألفاً _ ودخل المسلمون بيت المقدس ، وطهروه من الصليب و الخنزير، ورفعوا الأذان ، ووحدوا الرحمن.

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون : إن علينا أن نكون بحجم التحديات ، في صبر وثبات، ولنعلم أن الدواء ليس في بكاء الأطلال ، وندب الحظوظ _ إنه في الترفع عن الواقع بلا تجاهل له ، فبالإيمان بالله ، والعمل بمراده ،و بالإرادة القوية الأبية ، يمكن تحويل عوامل الضعف إلى قوة بإذن رب البرية _ نعم لن تتنازل إسرائيل عن القدس إلا بالقوة ، ولا قوة إلا بنصر من الله عز وجل ، ولا نصر من الله إلا بعد أن ننصره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ وإن نصرنا لله لا يكون بالأقوال البراقة ، والخطب الرنانة ، التي تحول القضية إلى قضية سياسية ، وهزيمة مادية ، ومشكلة إقليمية _ إن نصر الله عز وجل لا يكون إلا بالإخلاص له ، والتمسك بدينه ظاهرا وباطنا ، والاستعانة به ، وإعداد القوة المعنوية والحسية ، بكل ما نستطيع ، ثم القتال لتكون كلمة الله هي العليا _ أما أن نحاول طرد أعدائنا من بلادنا ثم نسكنهم قلوبنا ، بالميل إلى منحرف أفكارهم ، والتلطخ بسافل أخلاقهم _ نحاول طردهم من بلادنا ، ثم يلاحقهم بعض مفكري أمتنا ، يتجرعون صديد أفكارهم ، ثم يرجعون يتقيؤنه بيننا_ نحاول طردهم من بلادنا ، ثم نستقبل ما يرد منهم من أفلام فاتنة ، وصحف مضلة _ فذلك التناقض البين ، والمسلك غير السليم ، والفجوة السحيقة بيننا وبين النصر:﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

أيها المسلمون : نريد أن نرى الواقعات البدرية ، والعزمات الصديقية ، والفتوحات العمرية _ نريد أن نجدد للإسلام أيام القادسية ، والواقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية _ الجهاد الجهاد فهو من أفضل عباداتكم ، وأشرف عاداتكم ،انصروا الله ينصركم ، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم، جدوا في حسم الداء ، وقطع شأفة الأعداء ، واستأصلوا فروع الكفر واجتثوا أصوله_ فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية ، والملة المحمدية. فالأمور بأواخرها ، والمكاسب بذخائرها ، فقد أظفركم الله بعدوكم ، وهم مثلكم أو يزيدون ، فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال الله تعالى: ﴿إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره ، والازدجار بزواجره، وأيدنا بنصره ﴿إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ