الاستمرار على الطاعة

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستمرار على الطاعة

إن الدوام على الأعمال الصالحة مقصد من مقاصد الشريعة وهدف من أهدافها العامة ، يدل على ذلك مجمل التكاليف الشرعية ، فإن الأعمال فيها مقسمة إلى فرائض ونوافل كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله قال : من عادي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» . والفرائض مقسمة على الزمن بما يجعل العبد دائم الصلة بربه ، فلليوم فرائض ، وللأسبوع فرائض وللسنة فرائض وللعمر فرائض . فمن التزم تلك الفرائض فهو مداوم على طاعة الله عز وجل

وكذا من التزم بالسنن المؤكدة والرواتب من النوافل ، وإذا كان قصد الشارع هو هذا ، فإنه يشرع للبعد أن يوافق قصد الشارع ، فإذا عمل عملاً من الطاعات كان مشروعاً له أن يداوم عليه ، بقدر استطاعته .

وإنما كان القليل الدائم خيراً لثلاثة معان :

المعنى الأول : أن التارك للعمل يصير بتركه بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل فهو بهذا متعرض للذم والجفاء ، ومن ثم ورد الوعيد في حق من حفظ القرآن ثم نسيه ؛ لعدم تعاهد القرآن والمداومة عليه .

المعنى الثاني : أن الدوام على الأعمال الصالحة ملازم لطاعة الله دائب على العمل الصالح في كل وقت فيجازى بالبر كثرة تردده وليس من لازم الخدمة كمن لازمها قم انقطع .

المعنى الثالث : وفي المداومة على الطاعات من الفوائد : سد مداخل الشيطان ورد مكائده قال الحسن رحمه الله : "إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً على طاعة الله عز وجل وبغاك فإن رآك مداوماً ملك ورفضك وإذا رآك مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك" . فإذا كانت الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فإن في إدامتها إدامة هذا المعنى وإذا كانت معنية على الخير ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ﴾ فإن في إدامتها زيادة تحقيق هذه الإعانة . ونتيجة العمل الدائم هي مزيد الأجر والثواب لأن العبد بدوام العمل القليل تدوم طاعته لربه فتزداد أجوره أما المكثر المنقطع فيصير إلى قلة في العمل ومن ثم قلة في الأجر . يقول الإمام النووي رحمه الله : "وإنما كان القليل الدائم خيراً من الكثير المنقطع لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة" وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد ألا غلبه فسدوا وقاربوا وأبشروا» . إشارة إلى هذا المعنى فقد بشرهم بالأجر والثواب العظيم بعد الأمر بالسداد والمقاربة وبشر من كان عاجزاً عن العمل الكثير بالأجر والثواب إذا كان عاملاً بما يستطيعه مسدداً مقارباً مع أن الناس يظنون أن الأجر إنما هو بحسب الإكثار من الطاعة والإثقال على النفس . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : « وقوله ( وأبشروا ) أي بالثواب على العمل الدائم وإن قل والمراد تبشير من عجز العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره » . قال ابن رجب رحمه الله « وأبشروا يعني أن من مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة فليبشر فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال فإن طريق الاقتصاد والمقاربة أفضل من غيرها فمن سلكها فليبشر بالوصل فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في غيرها » وإن كان من طبيعة البشر أنهم قد يقبلون على الطاعات في فترة من الفترات ثم ينقص عملهم بعد ذلك ولكن الخطورة هنا هي أن يكون ذلك النقص صائراً بالمرء إلى ترك السنة فأما إن اجتهدوا في الدين ووصل بهم الأمر إلى الغلو والشدة والتمسك به ثم هدأت حدته إلى قصد في الأمر واعتدال وسنة فهذا الرجوع محمود بكل حال وصاحبة من المهتدين يدل على ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لكل عمل [ وفي رواية (عابد) ] شرة ولكل وشرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك». وفي السنة أحاديث دالة على أن الدوام على الأعمال مقصد شرعي وهو محبوب إلى الله عز وجل فمن ذلك :

1- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : أدومها وإن قل وقال : اكلفوا من الأعمال ما تطيقون وفي رواية مسلم قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل» . قال القاسم بن محمد رحمه الله "وكانت عائشة إذا علمت العمل لزمته"

2- وعن علقمة قال : سألت عائشة رضي الله عنها يا أم المؤمنين : كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هل كان يخص شيئاً من الأيام ، قالت : لا ، كان عمله ديمة وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع .

3- وعن أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : « إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة »

ففي هذا الحديث جملة من الفوائد المتعلقة بالدوام منها :

الفائدة الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشاد الدين أحد أي يغالبه وذلك لأن المشاد للدين مصيره إلى الانقطاع . قال ابن حجر رحمه الله : والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب ، وهذا الحديث علم من أعلام النبوة فإن هذا واقع الناس فما إن يزيدوا على أنفسهم ألا ويعجزوا ويغلبوا فينقطعوا .

الفائدة الثانية : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسداد والمقاربة ، فقال : فسددوا وقاربوا والمراد (بالتسديد : العمل وهو القصد والتوسط في العبادة ، فلا يقصر فيما أمر به ولا يتحمل منها ما لا يطيقه)

أي اجتهدوا في المقاربة فإن لم تستطيعوا الأكمل فاقتربوا منه حسب ما تقدرون عليه و (لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرطوا) وفي الأمر بالسداد والمقاربة أمر بالتوسط من غير إفراط ولا تفريط

الفائدة الثالثة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» .

« استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة ،وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافراً إلى مقصد فنبهه على أوقات نشاطه لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعاً عجز وانقطع وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة ». وقد أورد الإمام البخاري رحمه هذا الحديث في صحيحه بعد جملة من الأحاديث في الترغيب في الأعمال الصالحة ليؤكد بذلك على القصد في العمل . قال الحافظ ابن حجر رحمه : (ومناسبة إيراد المصنف لهذا الحديث عقب الأحاديث التي قبله ظاهرة من حيث إنها تضمنت الترغيب في القيام والصيام والجهاد فأراد أن يبين أن الأولى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطع بل يعمل بتلطف وتدرج ليدوم عمله ولا ينقطع ، ثم عاد إلى سياق الأحاديث الدالة على أن الأعمال الصالحة معدودة من الإيمان فقال : باب الصلاة من الإيمان) .وقد وقعت جملة من الحوادث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان فيها تشديد بعض الصحابة رضوان الله عليهم على أنفسهم فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل وعلل النهي بأن الانقطاع والسآمة والملل مصير المثقل على نفسه المتشدد عليها الموغل في العبادة . فمن ذلك :

1- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما حين قال : والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت (فإنك لا تستطيع ذلك) . فإن مقصده من ذلك أنه التزم شيئاً طول عمره فقال : ما عشت . فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنك لا تستطيع ذلك) بل إنك ستنقطع وتكبر وتعجز ، فترك المداومة المحبوبة لله وتصير إلى الانقطاع . ولذلك لما كبر عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : وددت أني كنت قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم . قال النووي رحمه الله (معناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق عليه فعله ولا يمكنه تركه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : يا عبدالله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل .

2- ومن الأدلة قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما « لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل» فنهاه عن ترك العمل وفي ضمن ذلك الأمر بالدوام على الطاعات . ففي حديث عبدالله بن عمرو قال : قال : لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرأ القرآن في كل شهر قال : قلت إني أجد قوة قال : فاقرأه في عشرين ليلة قال : قلت إني أجد قوة قال: فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك» . قال النووي رحمه الله ( والمختار أنه يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه ولا يعتاد إلا ما يغلب على ظنه الدوام عليه في حال نشاطه وغيره ) . وقال : (وفي هذا الحديث وكلام ابن عمرو أنه ينبغي الدوام على ما صار عادة من الخير ولا يفرط فيه ) قال النووي في هذا الحديث : (وحاصل الحديث بيان رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليهم وإرشادهم إلى مصالحهم وحثهم على ما يطيقون الدوام عليه ونهيهم عن التعميق والإكثار من العبادات التي يخاف عليهم الملل بسببها أو تركها أن ترك بعضها وقد بين ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : «عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا» وقد ذم الله تعالى قوماً أكثروا العبادة ثم فرطوا فيها قال تعالى : ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ .

3- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبلٌ ممدود بين ساريتين فقال : (ما هذا الحبل ؟ ) قالوا : هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت به فقال : ( لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد ) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ( قوله باب ما يكره من التشديد في العبادة ) قال ابن بطال: إنما يكره ذلك خشية الملال المفضي إلى ترك العبادة وقال الحافظ : ( وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق فيها والأمر بالإقبال عليها بنشاط )

4- عن عائشة رضي الله عنها قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرٌ وكان يحجره من الليل فيصلي فيجعل الناس يصلون بصلاته ويبسطه بالنهار فثابوا ذات ليله فقال أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملاً أثبتوه . قال الإمام النووي رحمه الله : ( وفي هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر فتكون النفس أنشط والقلب منشرحاً فتتم العبادة بخلاف من تعاطي من الأعمال ما يشق فإنه بصدد أن يتركه أو بعضه أو يفعله بكلفة وبغير انشراح القلب فيفوته خير عظيم وقد ندم عبدالله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما على تركه قبول رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخفيف العبادة ومجانبة التشديد .

5- ومما يشعر بإرادة الدوام قوله صلى الله عليه وسلم في حديث التراويح عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلةٍ في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: « قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها »

قال ابن حجر رحمه الله :  وقوله : ( فتعجزوا عنها ) أي تشق عليكم فتتركوها مع القدرة عليها.

6- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وعندها امرأة قال : « من هذه ؟ قال : فلانة تذكر من صلاتها قال : مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل حتى تملوا » وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه . قال ابن حجر رحمه : (عليكم بما تطيقون): أي اشغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه .. .. والملال : استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته . خصوصاً أن من الناس من يظن أنه ما دام إيمان المرء يقوي بالأعمال الصالحة فلابد من مجاهدة النفس إلى درجة المغالبة فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك .