اختلاف الأحوال في قضاء الإجازة

بسم الله الرحمن الرحيم

اختلاف الأحوال في قضاء الإجازات

الحمد لله :

عباد الله : إن الفراغ مفسدة للعقل ، مهلكة للنفس ، متلفة للدين ، مصيدة للشيطان ، من رحم الفراغ تولد الضلالة ، وفي أحضانه تنشأ البطالة ، وفي كنفه تعيش الشبهة .

نعمة الصحة وهبة الفراغ ، يغفل عنها أناس كثير ، ويجهل أمرها عدد كبير . التغابن فيها عظيم ، والتفاوت بسببها بين . فكم من صحيح الجسم ناعم الحال ممدود الوقت ، يعيش بلا أمل ، ويسير بلا هدف ، ويمضي بلا غاية ، لا يفرق بين الجد والهزل ، ولا بين الغواية والهداية ، يقطع وقته سدى ، ويعيش حياته عبثا ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ . ولا أدل على ذلك من هذه الإجازات ، واختلاف أحوال الناس فيها ، وتباينهم في كيفية قضائها ، والاستجمام فيها .

عباد الله : المنتديات ألوان ، والمتنزهات أفنان ، والمصايف أشكال ، والسياحات أنواع ، والموفق من جمع بين الترويح والتسبيح ، والمتعة والرفعة، والأسفار والأذكار . يأكل من الطيبات ، ويأنس بالملذات ، فالتفاوت بالعمل ، والتمايز بالتقوى ، والتفاخر بالدين ، والتباهي بالإيمان ، فمن كان على تلك الحال فقد ظفر برضوان ذي الجلال .

وإليكم يا عباد الله : صوراً من أحوال الناس في هذه الإجازات :

إذا ذهبت إلى المطارات وجدت أمماً من الناس ، وفئاماً من البشر ، قد حملوا الحقائب ، وأخذوا الزينة ، وأعدوا العدة ؛ لأسفار كثيرة ، ورحلات مثيرة . اشرأبت أعناقهم ، وتطلعت أنفسهم ، وتاقت أرواحهم ، إلى سياحة جميلة ، وتنقلات طويلة ، مع تباين في حقيقة الأسفار ، واختلاف الرؤى والأنظار .

فيذهب بك العجب كل مذهب ، وتأخذك الدهشة كل مأخذ ، وأنت ترى تلك الوفود الهائلة ، والجموع الطائلة ، وهي تتزاحم على البوابات ، وتتسارع إلى امتطاء الطائرات ، وقد ألقوا المسئوليات وراءهم ، وتركوا المصالح خلفهم ، وأداروا لكل شيء ظهورهم ، فأهم ما لديهم ، وأسمى ما يستهويهم ؛ إمتاع النفس ، وتحقيق المراد ، وبعضهم قد يترك مع ذلك كله دينه وإيمانه ، ويرمي رداء التقوى قبل مغادرة الأسوار ، ويمزق ثوب الحياء ، بعد أن يستمع النداء ؛ وكأن الله تعالى لا يراه إلا هنا . ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ ….

وإذا تأملت في شواطئ البحار ، وجدت جموعاً كبيرة ، وأفواجاً غفيرة ، يبحثون عن اللهو ، وينشدون المتع ، ويتفننون في قتل الوقت ، وإضاعة الزمن .

وتتجه إلى الأسواق على كثرتها ، فإذا بها تغص بالمتسوقين ، وتمتلئ بالزائرين ، وقل منهم من جاء لحاجة ، أو أتى لشراء ، أو قدم لمصلحة ، بل أكثرهم جاءوا يبيعون أخلاقهم ، ويشترون آثامهم ، شباب متهتك ، وجيل متميع ، تخلى عن رجولته ، وتنصل من حيائه .

وتسمع عن الملاهي العديدة ، والألعاب الجديدة ، فيخيل إليك أن الناس جميعاً هناك . تفنن في صرف المال ، وإضاعة للعيال .

وإن من أقسى المناظر التي ترى ، وأخطر المشاهد التي تنتشر ، مشهداً يدمي القلب ، ويبكي العين ، ويمزق الفؤاد ، وهو مشهد لكثير من الناس ، تسمروا أمام شاشات الردى ، وقعدوا رهينة لقنوات الخنا ، ضاعت أوقاتهم ، وذهبت طاقاتهم ، وألهبت عواطفهم ، وسعرت نيران شهواتهم ، لا ليلهم ليل ، ولا نهارهم نهار ، يؤذن المؤذن ، وتقام الصلوات ، وينادى للطاعات ، ولسان حالهم يهتف : إنا هاهنا قاعدون ، وللأوامر تاركون .

عباد الله : وفي خضم هذه المشاهد ، وغمرة تلك المناظر، ودوامة هاتيك الأحوال ، نجد هناك منظراً بديعاً ، ومشهداً رفيعاً ، يعجب الناظر ، ويسعد الخاطر ، منظر يسر به القلب ، ويفرح به الفؤاد ، إنه منظر لثلة من الناس ، تركوا إجازاتهم ، وضحوا بملذاتهم ، وأسهروا أعينهم ، وشحذوا هممهم ، وتركوا ديارهم ، وأرهقوا أجسامهم ، طاعة لربهم ، وحباً لدينهم ، وحرصاً على أمتهم ، وصيانة للأخلاق ، وحفظاً للأوقات ، ونشراً للخير ، وحراسة للفضيلة ، فشاركوا في حلقات كريمة ، ودورات عظيمة ، أشرعت أبوابها ، وهيئت أسبابها ، وقربت ثمارها ، وقدمت أكلها .

إن هذه الحلقات الخيرية ، والدورات العلمية ، كانت كالغيث المبارك على أهل هذه البلاد ، فارتوت منها القلوب ، وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، لقد عظم نفعها ، وحسن وقعها ، فيها إعلاء للدين ،ونصرة للحق ، ودعوة للهدى .

حفظت السور والآيات ، وألقيت الدروس والمحاضرات ، وأقيمت الندوات والمسابقات . كم أفاد منها من سائح ، وسعد بها من مسافر ، وارتوى منها من مقيم .

الحمد لله :

عباد الله : وهذه رسائل :

إلى العلماء والدعاة: فأقول : لقد شرفكم الله بالعلم ، وزينكم بالفهم ، وجملكم بالدعوة ، وميزكم بالبصيرة ، وامتدحكم بالخشية ، فهذه قنوات للخير ، وسبل للدعوة ، وفرص لتزكية العلم ، فلا تتخلوا عن الواجب . فأهل الشهوات ، ورواد الباطل ، يملئون قوائمهم ، بأنصار لهوهم ، وسمار باطلهم ، يسافرون من بلد إلى بلد ، وينتقلون من مكان إلى مكان ؛ لأغراض هابطة ، ودعايات تافهة . ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ .

ويا أيها الناس: هذه قلاع للحق ، ومراتع للهدى، وإن حضوركم لها ، وذهابكم إليها ، أفضل دعم لها ، وخير سبيل لنجاحها ، وأضمن طريق لاستمرارها ، ثم هي تحفظ أوقاتكم وأوقات أبنائكم ، وتعينكم على النصح والتوجيه ،والتربية والتأديب .

ويا من قام على هذه الأعمال: بارك الله أعمالكم ، وشكر سعيكم ، ونفع بجهودكم ، ونضر وجوهكم ، فامضوا في سبيلكم ، وتوكلوا على ربكم . فإن كثيراً من البلاد الإسلامية ، إنما انسلخت من دينها ، وتخلت عن تعاليم ربها ، وانتشرت فيها البدع والمحدثات ، والفسوق والتبرجات ، حينما قل دعاة الحق ، ورواد الإصلاح ، ولو أنه إذا رفعت للشر راية ، رفعت للحق رايات . وإذا أطلقت في الباطل كلمة ، أطلقت لقمعها كلمات ، وجهرت أصوات . وإذا تبجح كاتب أو متكلم أو بما يفسد الدين والخلق ، برز له كاتب ، ووقف له أبطال ، لكانت الغلبة لهم بإذن الله تعالى ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ فلا تتقهقروا ، ولا تتأخروا ، ولا تتعثروا ، بل سيروا وأملوا وأبشروا .

ويا أهل المال والثراء: إن من شكر نعمة هذا المال ، التي وهبكم الله إياها ، أن تجودوا بها في رفعة دينكم ، ونصرة شريعة ربكم ، وإعلاء راية إيمانكم ، وإن هذه الحلقات والدورات لمن أحسن ما تنفقون فيه ، وأفضل ما تجودون له .

فلينفق ذو سعة من سعته ، وليبذل ذو مال من ماله ، وليجد ذو رزق من جود ربه

﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ واعلموا يا عباد الله : أن راية هذا الدين منذ بزوغ فجره ، وإشراق أمره ، إنما ارتفعت بعد فضل الله تعالى ، بدعم ذوي المال ، ومسابقة أرباب الغنى ، وتنافس خطاب الآخرة ، وقصصهم في ذلك مشهورة ،وأخبارهم مذكورة ، وأعمالهم مبرورة .