الخوف من الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الخوف من الله

الحمد لله،، أما بعد :

فإن الخوف من الله عبادة من أجل العبادات ، فهي طريق سار عليها الملائكة والنبيون ، وجادة سلكها السلف الصالحون . الخوف من الله ذلك الأمر الذي أقض مضاجع العباد ، وأظمأ نهار الصائمين

كم فك الخوف من أسير شهوة ، وكم أطلق من سجين لذات ، وكم أعان على خلق كريم ، وكم منع من خلق ذميم ، و كم أيقظ من غافل ، كم من غارق في ظلمات الكفر والفجور ، أخرجه الخوف إلى النور ، كم بالخوف من عاصية عفت ، وغانية تنسكت ، فهو النار المحرقة للشهوات ، ما فارق قلب إلا خرب ، وما استقر في قلب إلا استقام . ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى (40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى﴾ ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ ومن فضائله أنه سبب للتمكين ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ ومن فضائله أنه علامة على الإيمان ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الخوف أمر يحبه الله كما عند الترمذي وحسنه الألباني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين : قطرة دموع من خشية الله ، وقطرة دم تهرق في سبيل الله ، وأما الأثرين : فأثر في سبيل الله تعالى ، وأثر في فريضة من فرائض الله تعالى»

الخوف سبب للنجاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاث منجيات : وذكر منها : خشية الله في السر والعلانية»

ومن فضائله أنه سبب للأمن في الآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى : وعزتي وجلالي ، لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين ، إن أمنني في الدنيا ، أخفته يوم أجمع عبادي ، وإن خافني في الدنيا ، أمنته يوم أجمع عبادي».

وهو سبب للنجاة من النار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع» ، الملائكة تخاف ربها ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾ ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾. الأنبياء يخافون ربهم ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياًّ﴾ .

سيد الأنبياء يخاف الله ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾، قال عبد الله بن الشخير رضي الله عنه : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كيف أنعم وصاحب القرن قد ألتقم القرن ، وحنا الجبهة ، وأصغى السمع ، ينتظر متى يؤمر بالنفخ» قالوا كيف نصنع ؟ قال : قولوا : «حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا» .

الصحابة يخافون ، وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون قال : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً» قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم حنين . وصفهم علي رضي الله فأحسن قال : لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم ، لقد كانوا يصبحون شعثاً صفراً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى ، قد باتوا لله سجداً وقياماً ، يتلون كتاب الله ، يراوحون بين جباههم وأقدامهم ، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح ، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم ، والله لكأن القوم باتوا غافلين ، ثم نهض فما رئي بعدها ضاحكاً حتى مات .

أبو بكر رضي الله عنه صديق الأمة وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم المبشر بالجنة ، الرفيق الشفيق ، رقيق القلب ، غزير الدمع ، كان إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه ، تنسكب من عينيه العبرات ، ويكاد صوته أن ينحبس حتى لا يكاد يسمع . الفاروق عمر مع شدته وصلابته ومع أن الشيطان يفر منه ، كان في وجهه خطان أسودان من البكاء من خشية الله فعن عبد الله بن شداد قال سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح يقرأ في سورة يوسف ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾.

وكان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته ، وكان علي رضي الله عنه غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، وكان يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين .

هذا خوف الأنبياء والرسل وأتباعهم ، فهل نحن على الدرب سائرين ، وبالآثار مقتفين، اللهم ...

الخطبة الثانية

فإن من الأسباب الجالبة للخوف من الله: استشعار عظمة الله وقدرته وأسمائه وصفاته كقوله تعالى ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.

قال الإمام أحمد رحمه الله: عن عائشة رضي الله عنها قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾.

والله أكبر ظاهر ما فوقه *** شـيء وشـأن الله أعظم شــان

والله أكبر عرشه وسع السما *** والأرض والكرسي ذا الأركان

وكذلك الكرسي قد وسع الطبا *** ق السبع والأرضين بالبرهان

والرب فوق العرش والكرسي لا *** يخفى عليه خواطر الإنسان

ومما يعين على الخوف زيارة القبور ، والتفكر في الموت وشدته وأنه لا مــهرب منه ، ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكثروا من ذكر هاذم اللذات الموت» وقال «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» ومن ذلك التفكر في القيامة وأهوالها ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ ﴿أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ﴾ ﴿فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيباً﴾ ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وَجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾ ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ﴾ ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً﴾ ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ ﴿يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ﴾ ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى﴾، ومما يعين على الخوف التفكر في سوء الخاتمة ، والخوف من أن يحال بينه وبين التوبة ، وأن يتفكر العبد في ذنوبه ، ومما يعين على الخوف أيضاً صحبة الصالحين ، ومجالسة الزاهدين ، وطلب العلم عند العلماء الربانيين .