الحسد وأضراره

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسد وأضراره

الحمد لله: ففي ثلاثة أيام متتابعات يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة» فيخرج رجل واحد، فيتبعه عبد الله بن عمر، ويبيت معه ثلاث ليال، فلم يجد عنده كبير عمل، فلما كاد أن يحتقره، وأراد فِراقه، أخبره بقول صلى الله عليه وسلم وتعجُبَه كيف بلغ هذه المنزلة ! فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسُد أحداً على خير أعطاه الله. فقال ابن عمر: هذه التي بلغت بها.

عباد الله: «دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء». قاله نبيكم صلى الله عليه وسلم خصلة ذميمة حذركم الله منها، فطهروا أنفسكم من الاتصاف بها، إنها خصلة من أعظم خصال الشر. قال عنها صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا» وقال: «إياكم والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب». ولو تأملت كثيراً مما يحصل بين الأقارب والإخوان، والعمال والجيران، والتجار وطلاب العلم، لوجدت أن كثيراً منه، إن لم يكن أكثره: سببه الحسد !!

الحسد يا عباد الله: صفة شرار الخلق، قد اتصف بها إبليس فحسد آدم عليه السلام لمّا رآه فاق الملائكة، حيث خلقه الله بيده، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى خرج منها.

والحسد أول ذنب عُصي الله به في الأرض، حيث حمل أحد ابني آدم على قتل أخيه ظلماً، لما وهبه الله النعمة، وتقبل منه القربان.

والحسد صفة اليهود كما ذكر الله في مواضع من كتابه، فقد حسدوا نبينا صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من النبوة، والمنزلة العظيمة، فكفروا به مع علمهم بصدقه، وتيقنهم أنه نبي الله ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ﴾. وحسدوا هذه الأمة على ما من الله به عليها من الهداية والإيمان ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ﴾ ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾.

عباد الله: وكل أحد لديه شيء من الحسد ولابد إلا من عصمه الله، ولكن المؤمن يخفيه، فلا يترتب عليه أذى بوجه ما، لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، ولا يعاجل أخاه إلا بما يحب الله. قال الحسن البصري رحمه الله: ما خلا جسد من حسد، ولكن المؤمن يدفعه.

يقول ابن القيم : "وقد يكون الرجل في طبعه الحسد، وهو غافل عن المحسود لاه عنه، فإذا خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه، ووجهت إليه سهام الحسد من قلبه ؛ فتأذى المحسود بمجرد ذلك، فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به، ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله، والإقبال عليه، بحيث يدفع عنه من شره، بمقدار توجهه وإقباله على الله، وإلا ناله شر الحاسد ولا بد " أ.هـ

عباد الله: الحاسد لا ينال في المجالس إلا مذمة وذلاً، ولا في الخلوة إلا جزعاً وغماً، ولا عند الفزع إلا شدة وهولاً، ولا من الملائكة إلا لعنة وبغضاً، ولا في الموقف إلا فضيحة ونكالاً، ولا في النار إلا حراً واحتراقاً. نسأل الله العافية. فلله كم من قتيل ؟ وكم من سليب ؟ وكم من معافى عاد مضني على فراشه.

عبد الله: اعلم أن راحة البال أن ترضى بقسم الله، وأن تعلم كمال حكمة الله، فهو الذي يعطي ويمنع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، يعطي بفضله، ويمنع بعدله.

ومن له أدنى فطنة، وتأمل أحوال العالم، ولَطُفت روحه، وشاهدت الأحوال وتأثيراتها، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم، خالق الأسباب والمسببات، رأى عجائب في الكون، وآيات دالةً على وحدانية الله وعظمته وربوبيته، وأنَّ ثَمَّ عالَماً آخر تجري عليه أحكامٌ أُخر، تشهد آثارها وأسبابها، غُيِّب عن الأبصار، فتبارك الله رب العالمين، وأحسن الخالقين، الذي أتقن كل شيء، وأحسن كل شيء خلقه.

وتأمل حال الإنسان إذا فارقته الروح كيف يصير ! فأين ذهبت تلك العلوم والفهوم ؟ والمعارف والعقول ؟ وتلك الصنائع الغريبة ؟ والأفعال العجيبة ؟ وتلك الأفكار والتدبيرات ؟ كيف ذهبت كلها مع الروح، وبقي الهيكل سواءٌ هو والتراب !.

فليتق الله الحاسد، وليُذهب من قلبه الحسد، وإلا فليطفئ نار إعجابه بالشيء بذكر الله سبحانه، وليدفع شر عينه بقوله: اللهم بارك عليه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: «ألا برَّكت؟». وليعلم أن النعمة لا تزول عن المحسود لتصل إليه، بل ترجع إليه عينه فتقلعها، أو إلى نفسه فتعذبها. فعلام يعذب نفسه ويقتلها ؟!.

فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أنه لا بأس على المرء، في أن يتحرز من الحسد أو العين، بستر محاسن من يخاف عليه بما يقيه، أو يتعوذ بالتعوذات الشرعية، فقد قال سبحانه عن يعقوب عليه السلام ﴿وَقَالَ يَابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ﴾. قال ابن عباس: إنه خشي عليهم العين وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة. ولْيُعلم أن هذا الاحتراز لا يرد قضاء الله إذا قدره ؛ ولذلك قال ﴿وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الحسنَ والحسينَ يقول: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل عين لامَّة ومن كل شيطان وهامَّة». ويقول: «هكذا كان إبراهيم يُعوِّذ إسحاق وإسماعيل عليهم السلام». ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: «بسم الله أَرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شر كل نفس، أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك».

الحمد لله:

عباد الله: إن الحسد داء عضال، ونار آكلة، لم يهمل الشارع الحكيم جانبها، بل بينها ووضحها، وأبدى للناس علاجها، وإن من أعظم ما يزيله بأمر الله تعالى، ويندفع به شر الحاسد، التعوذ بالله من شره، والتحصن به واللجأ إليه، والله سبحانه سميع لاستعاذته، عليم بما يستعيذ منه. وتقوى الله وحفظُه عند أمره ونهيه, فمن اتقى الله تولى الله حفظه، ولم يكله إلى غيره ﴿وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾. «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك» ومن كان الله حافظه، فممن يخاف، وممن يحذر ؟. فمن كان كذلك فقد أوى إلي حصن منيع، وركن شديد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فما سُلِّط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه، أضعافُ ما يعلمه منها، وما ينساه مما عمله وعلمه أضعافُ ما يذكُره. فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه، أضعافُ أضعافِ ما يعلمه. والله يتولى نصرَه وحفظَه والدفعَ عنه.

والجامع لذلك كله، وعليه المدار: هو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر إلى المسبب العزيز الحميد. والعلم بأن جميع ذلك بيد محركه وفاطره وباريه، لا يضر ولا ينفع إلا بإذنه قال تعالى ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾. وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك». فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين.

عباد الله: المؤمنون يأخذون بالأسباب، ويبقى التوكل على الله ملاذاً آمنا، ومعتقداً صادقاً، يأخذون بالحيطة والحذر، ويؤمنون بالقضاء والقدر ﴿وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾.

فمن خاف غير الله سُلِّط عليه، ومن رجا شيئاً سوى اللهِ خُذِل من جهته، وحُرِم خيره، وهذه سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا. وهو سبحانه حسب من توكل عليه، كافي من لجأ إليه، وهو الذي يُؤَمِّن خوف الخائف، ويجير المستجير، وهو نعم المولى ونعم النصير. فلا تستبطئوا نصر الله ورزقه وعافيته، فإن الله بالغ أمره، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، لا يتقدم عنه ولا يتأخر. أعاذنا الله وإياكم بكلماته التامة من كل عين لامَّة، ومن كل شيطان وهامة.