الفرج بعد الشدة

الحمد لله واحداً أحداً، لم يتخذ صاحبة ولم يكن له ولداً، إله عظيم بأحسن الأسماء منعوتاً، وبأكمل الصفات متصفاً، أحمده سبحانه وأشكره، جعل مع الشدة يسراً، ومع الهم فرجاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق وأحصاهم عدداً ، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، خير الخليقة وأعظمهم قدراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ما أظلم ليل وما أشرق فجر وبالضياء بدا. أما بعد: فلتتقوا الله عباد الله ولتعلموا أن المصائب في هذه الدنيا سهام مشرعة، ورماح للبلاء معدة مرسلة، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان ونكد وأحزان.

عباد الله، إن العبد في هذه الحياة لا يخلو من حالين، إما حصول محبوب أو وقوع مكروه. فالمؤمن الصادق يقابل المحبوب بالشكر، والمكروه بالصبر.

عبد الله : مهما عظمت مصيبتك، وكبر همك، وازداد غمك، فاعلم أن مع العسر يسرا، ومع الكرب فرجا.

يخرج صلى الله عليه وسلم من مكة بعد أن أخرجه قومه منها وحاولوا قتله ؛ يخرج متخفياً مع صاحبه والقوم يشتدون في طلبه ،وتتجمع العرب قاطبة على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في المدينة تستهدف استئصالهم والقضاء عليهم ، وينقض اليهود من داخل المدينة عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشتد الأمر والكرب ،لكنه الإيمان الراسخ كالجبال الشم الراسيات بأن مع العسر يسراً، وأن مع الخوف أمناً، وبعد الذل غلبة ونصراً ؛ هكذا هو حال المؤمن الموحد الذي يثق بأنه لا مدبر لهذا الكون سوى الواحد الأحد؛ الذي لا تخفى عليه خافية ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ يبتلي عباده بالسراء والضراء، والنعمة والبأساء، والصحة والمرض، والغنى والفقر ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ .

فيا من شكا الخطوب، وعاش وهو منكوب،ودمعه من الحزن مسكوب، يامن داهمته الأحزان، وبات وهو سهران، وأصبح وهو حيران، يامن هده الهم وأضناه، وأقلقه الكرب وأشقاه، وزلزله الخطب وأبكاه، أنسيت أمن يجيب المضطر إذا دعاه، للمرض شفاء، وللعلة دواء، وللظمأ ماء، وللشدة رخاء، وبعد الضراء سراء، وبعد الظلام ضياء، كان بلال يسحب على الرمضاء، ثم رفع لرفع النداء، وكان يوسف مسجونا في الدهليز، ثم حكم مصر بعد العزيز، عبد الله: عسى أن تكون الشدة أرفق بك، والمصيبة خيرا لك، فإذا ضاقت بك السبل، وانقطعت بك الحيل، فالجأ إلى الله عز وجل، واعلم أن الشدائد ليست مستديمة، ولا تبقى برحالك مقيمة، والدنيا أحوال، وألوان وأشكال، ولن تدوم عليك الأهوال، فسوف تفتح الأقفال، وتوضع الأغلال، والشدائد تفتح الأسماع والأبصار، وتشحذ الأفكار، وتجلب الاعتبار، وتعلم التحمل والاصطبار، تذيب الخطايا، وتعظم بها العطايا، وهي للأجر مطايا.

عبدالله: بعد الجوع شبع، وبعد الظمأ ري، وبعد السهر نوم، وبعد المرض عافية، سوف يصل الغائب ويهتدي الضال، ويفك العاني، وينقشع الظلام ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾ وقال تعالى : ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ وقال : ﴿فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً﴾ .

قال ابن رجب : ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب، واليسر بالعسر، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين، تعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أكبر الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله تعالى يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى : ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ قال الفضيل – رحمه الله - : والله لو يئست من الخلق، حتى لا تريد منهم شيئا، لأعطاك مولاك كل ما تريد.

الخطبة الثانية :

عبد الله :اعلم أن الله يبتليك في المنع كما يبتليك في العطاء قال تعالى ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ وقال سبحانه ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ إن الابتلاء مورد من موارد الصبر، وهو فريضة الوقت في المصيبة ، فتذكر- أخي المسلم - أن الصبر على أقدار الله ، أحد أصول الإيمان قال صلى الله عليه وسلم «واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك» أخرجه أبو داود. وقال صلى الله عليه وسلم «واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا» أخرجه أحمد والبيهقي. والصبر عباد الله من جميل الخلال ، و محمود الخصال ، فلا تتسخط على أقدار الله، ولا تقع في سب الدهور والأزمان، ولا تلطم وجها، أو تشق جيبا، واحذر أن تفتح على نفسك باب الشيطان الكبير وهو كلمة "لو" ؛ فتقول لو أني ما فعلت .

البلاء أمر قضي وانتهى ، والمؤمن يصبر اختياراً ، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم . يقول عمر رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا بالصبر" ، ويقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- "الصبر مطية لا تكبو" .

يجرى القضاء وفيه الخير نافلة *** لمؤمن واثق بالله لا لاهي

إن جاءه فرح أو نابه ترح *** في الحالتين يقول الحمد لله

وقال الحسن -رحمه الله- "والصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبدٍ كريم عنده ".

قول ابن القيم -رحمه الله- "الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين ، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنى وأمناً، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه ، ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضدِ ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه ".

في المحنة منحة، وفي النقمة نعمة ، فيها تقوية للمؤمن وتدريب له على الصبر، وفيها النظر إلى قهر الربوبية وذل العبودية ،وفيها خضوع الإنسان لربه وانطراحه بين يديه ، فالله تعالى يبتلى خلقه بعوارض تدفعهم إلى بابه يستغيثون به فهذه من النعم في طي البلاء.

وليعلم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب وقسوة القلب وما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء وحفظا لصحة عبوديته ، وفيها العلم بحقارة الدنيا وهو أنها أدنى مصيبة تصيب الإنسان تعكر صفوه وتنغص حياته وتنسيه ملاذه السابقة.