تفسير آيات الأذكار (الورد اليومي)
الحمد للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على النبيِّ الأمين وعلى آله وأصحابه ومن تبَعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا علمَ لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم زدنا علمًا وهدًى وتُقى، واجعلنا يا ربنا ممن إذا أُعطيَ شكر وإذا ابتُلي صبر وإذا أذنب استغفر.
وقبل البداية في القراءة في المذكِّرة نأتي بمقدمةٍ يسيرة؛ لتكون مدخلًا للموضوع، وكما علمتم الآن أن الدرس هو في آياتِ الأذكار التي جاءت في القرآن الكريم، ومن المعلوم أن الأذكارَ على ضربين:
أذكارٌ مقيَّدة.
وأذكار مُطلَقة.
فالأذكارُ المقيَّدة مثل أذكار الصباح وأذكار المساء والأذكار العارضة وأذكار الصلوات، فهذه أذكار مقيدة، منها ما جاء في القرآن الكريم، ومنها ما جاء في السُّنة النبوية.
والضرب الثاني: هي الأذكار المطلَقة، والتي ينبغي للمسلم أيضًا أن يحافظ عليها في كل الأحوال؛ لأن الذِّكر هو غذاء القلوب سواء كان ذِكرًا مقيدًا أو ذِكرًا مطلقًا، والله سبحانه وتعالى قد أمر بالذِّكر وأحبَّ من عباده أن يذكروه، ولم يأتِ الأمر بالذِّكر في القرآن الكريم إلا على وجه الكثرة، وهذا في آياتٍ متعددة، طبقها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في ذلك، كما أخبر الله تعالى عن موسى عليه السلام في سورة ﴿طه﴾ قال: ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا﴾ [طه:33-35].
وجاء أيضًا عن زكريا عليه السلام في هذا ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ [آل عمران:41]، جاء فيه كثرة الذِّكر، وجعلَ الله تعالى من صفات أهل الإيمان: أنهم يُكثرون من الذِّكر في كل الأحوال، قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ [الشعراء:227].
وجاء في سورة الأحزاب أيضًا ثلاثة مواضع فيها بيان كثرة الذِّكر، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21]. ولما عدَّد الله تعالى صفات المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات قال: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾[الأحزاب:35]، وبَين ما أعده الله تعالى لهم من الأجر والثواب، وقال بعدها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب:41- 42]. وفي السُّنة النبوية أحاديث كثيرة تحثُّ على ملازمة الذِّكر والمداومة عليه، ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: «إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ؟ قال: لا يزال لسانك رطبًا من ذِكر الله».
ومَثَّل عليه الصلاة والسلام بالقلبِ الذي يذكر الله والذي لا يذكُر الله مثل البيت الخَرِب، والذِّكر هو عبادةٌ يسيرة لا تحتاج إلى استقبال قبلة، ولا إلى طهارة، ولا إلى مكان، هذا مطلق في كل الأحوال، وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين بذلك، فقال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[آل عمران:191] الآية – في كل الأحوال قائمًا، ماشيًا، جالسًا، مضطجعًا يُكثر من ذِكر الله؛ لأنه إذا أكثر من ذِكر الله ذكره الله تعالى، قال سبحانه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾[البقرة:152].
وقال الله تعالى في الحديث القدسي: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منه».
الذِّكر عبادةٌ عظيمة، غفَل عنها كثيرٌ من الناس وهجروها؛ ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما كما عند ابن المنذر والترمذي: "لا يفرض الله على عباده فريضةً إلا جعل لها حدًّا معلومًا ثم عذر أهلها في حال العُذر غير الذِّكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا معلومًا ينتهي إليه، ولا يتركه إلا إنسان مغلوبٌ على عقله، لا يذكر الله".
لأن الذكر هو السلاح القوي في طرد الشيطان وإبعاده عن الإنسان، المسلم يُهلك الشيطان ويحرقه بالذِّكر؛ ولهذا قال الله تعالى عن أولئك الذين أعرضوا عن الذِّكر ماذا كان لهم؟ ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[المجادلة: 19]. أنساهم الذِّكر، وهو يصدُّ عن الذِّكر وعن الطاعة، وفي آية المائدة: ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ -الشيطان- ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ﴾ [المائدة: 91]، فمحاربة الشيطان وهو العدو اللدود للإنسان تكون بالذِّكر.
لهذا يقول ابن القيم رحمه الله: "من لم يُعذِّب شيطانه بالذِّكر والاستغفار في الدنيا عذَّبه الشيطان يوم القيامة".
وما ضُرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من أن يُنسيَه الله تعالى الذِّكرَ، وما يقع للناس الآن من اضطرابٍ وقلقٍ وأمراض نفسية كلها بسبب البعد عن الذِّكر، فلو لازموا الذِّكر لاطمأنت قلوبهم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد: 28].
نعم، هذه مقدمة يسيرة حتى نعرف فضل الذِّكر ومكانته عند الله، والذي معنا هو بعض الآيات المتعلقة بالذِّكر المقيَّد في الصلاة، وفي الصباح، وفي المساء، وهي اختياراتٌ موفَّقة من كتاب الله جل وعلا، فعلى بركة الله تعالى نبدأ.
{بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين ولجميع المسلمين.
(سورة: الفاتحة.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 1-7].
﴿بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ﴾ أي: أبتدئ بكل اسمٍ لله تعالى؛ لأن لفظ اسم مفرد مضاف، فيعم جميع الأسماء الحسنى، ﴿اللَّهِ﴾ هو المألوهُ المعبود، المستحقُّ لإفراده بالعبادة؛ لما اتصَف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال. ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسِعت كلَّ شيءٍ، وعمَّت كلَّ حيٍّ، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلَقة، ومن عدَاهم لهُم نصيب منها.
واعلم أن من القواعد المتفقِ عليها بين سلف الأمة وأئمتها: الإيمانَ بأسماء الله وصفاته، وأحكامِ الصفات.
فيؤمنون مثلًا بأن الله رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم. فالنِّعم كلها أثر من آثار رحمته، وهكذا في سائر الأسماء. يُقال في العليم: إنه عليم ذو علمٍ، يعلم به كل شيء، قدير ذو قدرة يقدر على كل شيء)}.
نعم هذا هو كلام الشيخ عبد الرحمن السَّعدي في التفسير، وهو بيانٌ إجماليٌّ لمعنى البسملة وما فيها من الألفاظ الجليلة، وسيكون المنهج إن شاء الله تعالى في البيان في هذا أننا نتطرق إلى تحليل الألفاظ في هذه الآيات؛ حتى يتبين لنا المراد من ذلك، فهنا قال الشيخ في ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ جاء بالتقدير، الباء هنا في ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ الباء متعلقة بفعلٍ مُقدَّرٍ محذوف والشيخ هنا قدَّره بفعلٍ مقدرٍ محذوف، وهذا التقدير يكون متأخرًا وليس متقدمًا، ما يقول: "أبتدئ بسم الله" يؤخره؛ لأنه لا يتقدم على اسم الله فيقول: "بسم الله أبتدئ" أو "أبتدئ بسم الله"، الشيخ قال هنا: "أبتدئ بكل اسم لله تعالى" فنقول هنا: يكون متأخرًا؛ وذلك لإفادة الحصر والقصر كما ذكر ابن القيم، ولتعظيم اسم الله جل وعلا؛ لأنه لا يَصلُح أن يتقدم عليه شيءٌ في هذا في الذِّكر، ثم بَين هنا أن الاسم هنا مفرد مضاف كما سيأتي فيعم جميع أسماء الله الحسنى؛ لأن أسماء الله الحسنى هي مشتقةٌ من هذا الاسم العظيم، والذي قال فيه بعض أهل العلم: إنه اسم الله الأعظم؛ فلذلك تجد أنه إذا ذُكر هذا الاسم العظيم جاءت بعده الأسماء الأخرى، قال الله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الحشر: 22]، وقال: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾[الحشر: 23]. فبدأ باسم: ﴿ اللَّهُ ﴾ كما قال هنا: "فيعم جميع الأسماء الحسنى"، وقال أيضًا قال الله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110] فبدأ باسم الله الأعظم الذي هو ﴿ اللَّهُ ﴾، وتكلم على هذا الاسم الجليل: ﴿ اللَّهُ ﴾، وهو المألوه المعبود المستحقُّ للإفراد بالعبادة، هل هذا الاسم الكريم الجليل هل هو اسمٌ مرتجلٌ أو مُشتق؟
والصحيح كما قال ابن القيم رحمه الله: أن هذا الاسم الجليل مشتقٌّ وأن أصله الإله أصله الإله، فحُذفت الألف التي بين اللامين وأُدغمت اللام الأولى في اللام الثانية فصارت ﴿اللَّهُ﴾ مشدَّدة ﴿اللَّهُ﴾، وإلا أصله [الإله]، وهذا الاشتقاق هو قول كثيرٍ من النحاة ومنهم سيبويه وجمهور أصحابه، إذًا حُذفت الهمزة الأولى وأُدغمت اللام الأولى في الثانية وشُددت فصارت ﴿اللَّهُ﴾.
وهذا الاسم الكريم كما قال الشيخ: "هو الاسم الجامع لكل أسماء الله الحسنى والصفات العُلى، وإذا قلنا بالاشتقاق أنه مشتقٌّ على الصحيح مشتقٌّ من الإله؟ فلأنه دلَّ على صفة الإلوهية لله جل وعلا، كسائر الصفات الأخرى: صفة العليم، السميع، القدير، البصير مشتقٌّ من السمع، من البصر، وهكذا.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا من المنهج الذي سأذكره في بعض الكلمات نقلًا عن الصحابة والتابعين أو بدونِ تسمية لهم وإنما نقلًا قال ابن عباس: هو الذي يألهُه كل شيءٍ ويعبدُه كل خَلقٍ.
وقال في رواية أخرى: والله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
وهذا الاشتقاق [الإله] له أصلٌ في لغةِ العرب، في بيت رُؤبةَ يقول:
لله درُّ الغانياتِ المُدَّهِ *** سبَّحْن واسترجعْن من تألُّهي
أي: من عبادتي. سبَّحن واسترجعن من تألهي أي: من تعبُّدي وطلبي لذلك.
وهذا الاسم العظيم الذي هو ﴿الله﴾ له خصائص لفظية ومعنوية، أشار إليها ابن القيم ولكن لم أقف على هذا الكلام في أحدِ كتبه، وإنما ذُكر في مقدمةِ: "شرح كتاب التوحيد" نقلًا عمن حقق الكتاب قال: لهذا الاسم العظيم خصائص لفظية وخصائص معنوية، وسرد شيئًا منها.
ومن خصائصه أيضًا: أنه اسمٌ مختصٌّ بالله جل وعلا لا يشاركه فيه غيره فلم يُعرَف في الجاهلية أحدٌ تسمَّى بهذا الاسم، وقيل: إنه هو الاسم الأعظم ﴿الله﴾ هو الاسم الأعظم؛ ولذلك لا يُثنَّى ولا يُجمع هذا الاسم العظيم، وبقية أسماء الله الحسنى تابعةٌ لهذا الاسم وأوصافًا له أو مضافةً إليه، كما أشار الشيخ، فجميع أسماء الله الحسنى تابعةٌ لهذا الاسم العظيم الجليل.
وقال في معنى: ﴿الرحمن الرحيم﴾ إنهما اسمان دالاَّن على الرحمة الواسعة من الله، ﴿الرحمن﴾ هو الاسم الثاني من أسماء الله بنص الآية ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾[الإسراء: 110].
وكلمة: ﴿الرحمن﴾ على وزن [فعْلان]، وإذا قلنا على وزن [فَعلان] فمعناها أنها من صيغ المبالغة؛ لأن صيغة المبالغة تدل على الامتلاء، فتقول مثلًا: عطشان أي أنه مشتدٌّ عليه العطش، غضبان كذلك على وزن فعلان، فكلمة: ﴿الرحمن﴾ على وزن [فَعْلان] تدل على السِّعة كما قال الشيخ هنا: "ذو الرحمة الواسعة" تدل على سعة رحمة الله، كما قال سبحانه: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾[الأعراف: 156].
فإذا قيل مثلًا: رجلٌ: غضبان، ندمان، شبعان دلَّ على الامتلاء هنا، فهو سبحانه ذو الرحمة الواسعة في هذا، و ﴿الرحيم﴾ أخص وهو على وزن [فَعِيل] الرحيم على وزن فعيل، وكلٌّ منهما صفة مشبَّهة لكن فعلان أبلغ من فعيل؛ ولذلك جاء هو الاسم الثاني من أسماء الله جل وعلا، قال: ﴿الرحمن الرحيم﴾ فهما اسمان عظيمان مشتقان من الرحمة، والرحمة هي صفةٌ من صفات الله جل وعلا ثابتةٌ له، ولهذه الصفة وغيرها من الصفات آثار عظيمة، ماذا ينشأ عن هذه الصفة؟ ما نقول: إن الرحمة هي بمعنى إرادة الإحسان، هذا تأويلٌ لا يصح صرفُه عن معناه، وهذا تأويل أهل التعطيل. نقول: إن الرحمة صفةٌ ثابتةٌ لله جل وعلا ثبوتًا حقيقيًّا تليق بجلاله وعظيم سلطانه نؤمن بها ولا نؤولها، ولكنه ينشأ عن هذه الرحمة شيء ينشأ عنها الإحسان للخلق، أو أنه يحصل منها الخير للعبد؛ ولذلك جاء في آية في سورة ﴿الروم﴾ قال سبحانه: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾[الروم: 50]، المطر إذا نزل على الأرض وأنبتت أثرٌ من آثار رحمة الله شيء نشأ من آثار هذه الرحمة، ما نقول: إنها الإحسان، نقول: هذا نشأ من رحمة الله وأثر، الله سماه "أثر" ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾[الروم: 50].
إذًا هو أثر ما يحصل للعباد من الخير والإحسان والخير والعطف والرزق، هذه آثار رحمة الله على العباد، من آثارها، أما الذين يقولون: إننا أثبتنا الرحمة لله جل وعلا فقد شبهناه بالخلق وهذا قول باطل لا يصح، فنحن نؤمن بالصفة ولا نعلم الكيفية نؤمن بهذه الصفة ونعلم أن لها آثارًا؛ ولهذا ينبغي أن يظهر على الإنسان آثار أسماء الله الحسنى وصفاته لها آثار، كل أسماء الله الحسنى وصفاته لها آثار، وإذا اجتمع ﴿الرحمن الرحيم﴾ كما في هذه البسملة؛ البسملة اجتمع فيها ﴿الرحمن الرحيم﴾؟ فنقول: ﴿الرحمن﴾ دالٌّ على إثبات صفة الرحمة لله تعالى، الرحمة الذاتية، الصفة الذاتية القائمة به سبحانه وتعالى، ودلت كلمة: ﴿الرحيم﴾ على إثبات صفة الرحمة الفعلية له سبحانه؛ لأن صفة الرحمة الفعلية متعلقة بالمرحوم ولكن صفة الرحمن صفة قائمةٌ به جل وعلا.
يقول الله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾[الأحزاب:43] "رحيم" ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ يعني متعلقة ﴿الرحيم﴾ متعلق بالمخلوق، فهو سبحانه وتعالى فاعل الرحمة، وهو سبحانه وتعالى موصِل الرحمة لمن شاء من خلقه، قال سبحانه وتعالى: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ [الإسراء: 54]، وقال سبحانه: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [العنكبوت:21].
إذًا ﴿الرحمن﴾ صفةٌ متعلقةٌ به سبحانه وتعالى، وأما ﴿الرحيم﴾ رحمةٌ من الله صفةٌ له متعلقةٌ بالمخلوق في هذا، والرحمة عامةٌ وخاصة؛ فأما الرحمة العامة فهي لجميع الخلق كلهم من يعقِل ومن لا يعقِل يرحمهم الله تعالى بذلك؛ لأنه لو لم يرحمهم لما عرفوا أن يأكلوا ولا يشربوا ولا يناموا، فهذه رحمة عامة، ورحمة خاصة بأهل الإيمان، ولولا رحمة الله تعالى بنا لما استطعنا أن نمشي وأن نسير وأن نركب وأن ننزل وأن ننام وأن نسافر ونحو ذلك، كل ذلك من رحمة الله جل وعلا بعباده، والله تعالى لم يُنزل على عباده إلا رحمةً واحدة، واستودع تسعًا وتسعين رحمة ليوم القيامة، وهذه الرحمة التي أنزلها الله تعالى بها يتراحم الخلق فيما بينهم.
إذًا نقول: ﴿الرحمن﴾ ذو الرحمة الواسعة صفةٌ من صفاته، و ﴿الرحيم﴾ ذو الرحمة الواصلة للفعل.
الأولى صفةٌ، والثانية بالفعل.
إذا ورد واحد منهما في بعض الآيات يأتي ﴿الرحمن﴾ وحدَه، وفي آية يأتي ﴿الرحيم﴾ وحدَه، في الفاتحة هنا، وفي البسملة اجتمع ﴿الرحمن﴾ و ﴿الرحيم﴾ كما في قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾[البقرة: 163] اجتمعا، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ﴾ - ما فيه إلا كلمة: ﴿الرحمن﴾ - ﴿قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾[الفرقان: 60]. ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ [الإسراء:110] انفرد ما فيها ﴿الرَّحِيمُ﴾، والرحيم ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾[الأحزاب: 43].
إذا ورد كل اسمٌ لوحده فإنه يشمل الوصفَ والفعلَ، وإذا اجتمعا؛ فالرحمن الوصفُ والرحيم الفِعلُ.
إذًا لفظ: "رحمن" على وزن "فَعْلان" تفيد الدلالة على الحدوث والتجدد والاستمرار، وتفيد أيضًا الامتلاء بالوصف ...
وخلاصة الكلام في ﴿الرَّحْمَنُ﴾: أن هذا اللفظ على وزن "فعلان" يدل على الامتلاء، وعلى سِعة رحمة الله جل وعلا في ذلك، وأما كلمة: ﴿الرَّحِيمُ﴾ فهي على وزن "فعيل" تدل على الثبوت في الصفة. مثل أن نقول: "فلان قصير" ثابتة له، "فلان طويل"، "فلان جميل" هذا شيء ثابت، ولله المثل الأعلى فجاء هنا بالوصفين، وهذا هو أحسن الجمع بين الوصفين حينئذٍ إذا تكلمنا على كلمة: ﴿الرَّحِيمُ﴾ و ﴿الرَّحِيمُ﴾ في هذا.
بقي مسألة في (الفاتحة) هنا في البسملة لم يتكلم الشيخ عليها؛ لأنه لم يتوسع في المسألة هذه في قضية هل هي آية أم ليست آية؟ هل البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة؟
هناك خلاف بين أهل العلم في هذا:
قيل: إنها آية من أول الفاتحة، قيل إن البسملة آيةٌ من أول الفاتحة، وهو قولٌ للشافعي.
وقيل: إنها آيةٌ من كل سورة سوى سورة (براءَة).
والقول الثالث وهو الصحيح: أنها آيةٌ مستقلة وليست من السور؛ لا من الفاتحة ولا من غيرها، أنها آيةٌ مستقلةٌ نزلت للفصل بين السور وليست بآية، وإن كان موجود في المصحف لها رقم خرج من الخلاف، وإلا هي سبع آيات بدون الفاتحة بدون البسملة، والدليل على ذلك: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾[الحجر: 87]. ﴿سبعًا من المثاني﴾.
وفي حديث أبي هريرة المُخرَّج في صحيح مسلم: «قسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» في الحديث القدسي لم يذكر فيه البسملة، فإذا قال العبد: «الحمدُ لله، قال: حمدني عبدي» ﴿الحمد لله رب العالمين﴾، «وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالكِ يوم الدين، قال: مجَّدني عبدي».
وبَين أن له ثلاثًا ولعبده ثلاثًا ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ هذه آية، ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ آية، ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ فتكون ثلاث آيات، ثم أربع آيات فيها؛ لأن ما بعد الآيات الثلاث يقول: «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل». فهي آيةٌ مستقلة نزلت ليست من السور وإنما هي للفصل بين السور، ولا خلاف بين أهل العلم أن البسملة جزءٌ من آية في سورة النمل ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: 30] جزءٌ من آية، هذا باتفاق، وهناك أدلة لكل قولٍ من هذه الأقوال وليس هذا موضع بسطها، والشيخ هنا لم يتكلم على أسماء ﴿الفاتحة﴾ ولا فضلها، وسورة ﴿الفاتحة﴾ لها أسماء متعددة، من هذه الأسماء أنها سورة ﴿الفاتحة﴾، ومن أسمائها أيضًا: لأنه جاء في الحديث: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، ومن أسمائها: أنها أم القرآن، وأم القرآن هي "السبع المثاني".
وقد جاء في الحديث عند مسلم: «من صلى صلاةً لم يقرأ فيها بأم القرآن».
وتُسمى: "أم الكتاب"، ورُويَ هذا في حديث لأبي قتادة عند البخاري: «كان يقرأ الظهر في الأوليين بأمِّ الكتاب»، فسماها: "أم الكتاب"، وتسمَّى أيضًا بـ : "الحمد لله رب العالمين"، وهذا ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد بن المُعَلَّى، لما أخبره النبي عليه الصلاة والسلام بأعظم سورة في القرآن قبل أن يخرج من المسجد قال: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ فأُخذ من هذا أنه اسم للسورة، ومن أسمائها أيضًا: "السبع المثاني" كما في آية الحِجر ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾ [الحجر: 87].
وهذا يدلك على أن الفاتحة هي سبع آيات، هذا باتفاق القرَّاء سبع آيات لهذه الآية، وأما وصفها بالمثاني؛ فلأنها تُثنَّى في الصلاة في كل ركعة يقرأها المسلم، وهناك أسماء أُخرى كثيرة لهذه السورة الكريمة منها: "القرآن العظيم، والشافية، والكافية، والراقية، والصلاة، والدعاء، والسؤال، والشكر، والكنز".
ذكرها أبو حيان في تفسيره والقرطبي والسيوطي.
وأما فضل هذه السورة فهو كما تقدم في حديث أبي سعيد بن المعلَّى في صحيح مسلم، لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لأعلمنَّك سورةً هي أعظم سورةٍ في القرآن الكريم قبل أن تخرج من المسجد» - فتلا عليه أول هذه السورة – ﴿الحمد لله رب العالمين﴾.
وجاء في صحيح مسلم أيضًا: أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أبشر بنورين لم يؤتهما نبيٌّ قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَه».
وهناك أيضًا أحاديث أُخر تدل على فضل هذه السورة، منها ما جاء عند الترمذي: "ما أنزل الله تعالى في التوراة والإنجيل مثل أم القرآن"، "وحديث قصة اللَّديغ لأبي سعيد الخدري"، "وحديث أبي هريرة المتقدم «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» كل هذا يدل على فضل سورة الفاتحة وأنها عظيمة؛ لأن سورة الفاتحة جمعت كلَّ ما في القرآن الكريم، خلاصة ما في القرآن الكريم هو في سورة الفاتحة، وخلاصة ما في القرآن الكريم وفي سورة الفاتحة هو في قوله تعالى: ﴿إياك نعبدُ وإياك نستعين﴾، كما قرر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى، وعدد آياتها سبع كما جاء في الآية.
قالوا: "وهذا إجماعٌ بين أهل العلم" حكاه جمعٌ من أهل العلم كالنَّحاس والدَّاني والواحدي وابن عطية والشَّاطبي وابن الجوْزي والسخاوي وابن تيمية وابن كثير" ذكروا أنها سبع آيات، وإذا كُتبت في المصحف فهذا لا يعني أنها آية ضمن الفاتحة، لو تفتح المصحف تجد أنه مكتوب رقم على البسملة، ومكان نزولها: أنها مكية، ومنهم من قال: إنها مدنية، وهو لا يصح، وقالوا: إن للفاتحة نُزلين أو تنزُّلين، ولكن الصحيح: أنها مكية؛ لأن الآية التي جاء فيها ذِكر الفاتحة مكية، سورة الحجر مكية ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾[الحجر: 87] مكية باتفاق، ولأن الصلاة فُرضت في مكة في السَّنة الثانية فكيف يُصلُّون بدون فاتحة؟!
فهذا مما يدلك على صحة القول بأنها مكية، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفاتحة الكتاب نزلت بمكة لا ريب"، وقول من قال: الفاتحة لم تنزل إلا بالمدينة غلطٌ، بلا ريب أنها مكية، ولكن نقول: الآيات بعضها تنزل مرتين وهذا لا يمنع من نزول الآية مرتين، وربما أن يكون الله أعلم أن سورة ﴿الفاتحة﴾ نزلت مرتين، ولكن لم أقف على هذا في شيء.
هذا ما يتعلق بالبسملة وبعددِ آيات الفاتحة وفضلها. نعم.
﴿قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [هو] الثَّناء على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، فله الحمد الكامل بجميع الوجوه. ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الربُّ": هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم النِّعم العظيمة، التي لو فقدوها لم يمكن لهم البقاء، فما بهم من نعمة فمنه تعالى.
وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامةٌ وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا، والخاصة: تربيته لأوليائه فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصَّوارف والعوائق الحائلةَ بينهم وبينه، وحقيقتُها: تربية التوفيق لكل خير، والعِصمة عن كل شر.
ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ: الرب". فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.
فدل قوله ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ على انفراده بالخَلق والتدبير، والنِّعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار﴾.
شرع الآن في بيان معنى: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ وهي الآية الأولى في هذه السورة الكريمة، قال في تعريف الحمد: "الثناء على الله بصفات الكمال" وهو تعريفٌ صحيح، لكن يحتاج إلى إضافة، قيل في تعريف الحمد: أنه الثناء الكامل، وقيل في تعريف الحمد أيضًا: إنه الوصف الجميلُ على الجميلِ الاختياري، لكن الصحيح ما ذكره الشيخ مع إضافةٍ، فنقول: "هو وصف المحمود بصفات الكمال" أو "الثناء على الله تعالى بصفات الكمال محبةً وتعظيمها"، فإضافة المحبة والتعظيم أساس في التعريف – "هو الثَّناء على الله تعالى بصفات الكمال محبةً وتعظيمًا"؛ لأنه لو أخبر إنسان عن محاسن غيره قد لا يكون بمحبةٍ ولا تعظيم له، يذكر محاسنه مثلًا خوفًا منه في هذا، أو طلبًا لشيءٍ، لكنه قد لا يُعظِّمه ولا يُجله في هذا، لكن مع المحبة والتعظيم كما سيأتي في تفسير العبادة، فالله سبحانه وتعالى كامل في ذاته وصفاته وأفعاله بهذا الحمد، فلابد من القيد من المحبة والتعظيم وهذه أشار إليها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، قال: "لأن مجرد الوصف بالكمال بلا محبةٍ ولا تعظيم لا يكفي"، لا يؤدي المقصود؛ لأنه سيتحول إلى مدحٍ، وفرقٌ بين المدح والحمد، وهذا أيضًا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية.
هذه الكلمة الكريمة: ﴿الحمدُ للهِ﴾ تحتها إثباتُ كل كمالٍ للربِّ: فعلًا ووصفًا واسمًا، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن كل عيبٍ: وصفًا وفعلًا واسمًا؛ لأن أفعاله كلها رحمةٌ وفضلٌ وخيرٌ ومصلحةٌ وعدلٌ، وأوصافه كلُّها أيضًا أوصافُ كمال ونعوتُ جلالٍ، وأسماؤه كلها حسنى، وهذا كله جاء في القرآن الكريم وفي السُّنة النبوية، والله تعالى قد أثنى على نفسه وحمِدَه قبل أن يحمده خلقه سبحانه، فابتدأ كتابه بالحمد، وابتدأ خلقه بالحمد، فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ [الأنعام: 1]، وختم خلقه بالحمد ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر: 75]، وجعل كلام أهل الجنة في الجنة "الحمد" ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: 43].
أشار إلى هذا ابن كثير في الفاتحة، فهو سبحانه وتعالى قد حمِد نفسه قبل أن يحمده خلقُه، وحمِده رُسله وملائكتُه والمؤمنون من عباده، ومَن تأمَّل الآيات القرآنية وجد ذلك، فالله جل وعلا قد حمِد نفسه وحمده ملائكته ﴿والمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِهِ﴾، ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: 59]، وحمده أنبياؤه ورُسلُه، وحمِده الصالحون من عباده، ولن يقوموا بالوفاء بحقِّه جل وعلا مع ذلك، وإذا تأملت في صفات الله جل وعلا عند كلمة: "الحمد" فإنها تأتي في الثَّناء على الله، وتأتي في انتفاء اتخاذ الولد عن الله جل وعلا، وانتفاء الشَّريك، وانتفاء الوليِّ، ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾[الإسراء: 111].
لكن بدأها بالحمد؛ ولذلك الكلام عند كلمة: "الحمد" فيه وقفاتٌ طويلة، فيه الآن رسالة ماجستير كاملة "الحمد في القرآن والسُّنة" رسالة دراسة وافية في جامعة أم القرى، لمَّا أراد الله تعالى أن يُشنِّع على أولئك الذين ينسبون لله الولد أتى ربُّنا بثلاثٍ سورٍ متوالية فيها نفي اتخاذ الولد عن الله بدءًا من سورة الإسراء: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾[الإسراء: 111]، وثنَّى بذلك في أول سورة الكهف مباشرة: ﴿وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوْا اتَّخَذَ اَللهُ وَلَدًا﴾ [الكهف: 4]، وفي آخرها، آخر سورة الكهف نفى الشريك عن الله، وفي سورة ﴿مريم﴾ الثالثة: نفى اتخاذ الولد عنه ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ﴾ [مريم:34-35]، وفي سورة الفرقان﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ [الفرقان: 2] سبحانه، بعد هذا السياق جاءت القوارع على أولئك المشركين والصواعقُ اللفظية التي تهزُّ السماء والأرض، في آخر سورة مريم: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ [مريم: 89- 92].
آياتٌ عظيمة ينبغي للمسلم أن يتأملَ فيها ويقفَ عندها ولا يقرأها هكذا، لابد أن يتدبر ويتأمل ويعرف عظمة الله جل وعلا في هذا.
هذا هو بيانٌ على وجه الاختصار للحمدِ: الثناءُ الكاملُ لله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله محبةً وتعظيمًا.
إذًا لو قيل: ما الفرقُ بين الحمدِ والشكر؟
هنا كلام لأهل العلم فيهما: الطبري رحمه الله تعالى لم يُفرق فهو كقول العبد: الحمد لله شكرًا، ومن تأمل أيضًا وجد أن هناك فرقًا بين الحمد والشكر، وقد ساقها ابن كثير في التفسير بدون أن نُفصِّل في هذا، وتعقَّب ابن َكثير ابنُ عطية في هذا، وقال: إن قوله هذا غير مرضيٍّ - في معنى أن الحمد هو بمعنى الشكر- ، والصحيح أن بينهما فرقٌ في ذلك يُرجع إليه في كتاب ابن عطية، وفي كتاب: "التفسير لابن كثير"، حتى لا نُطيل فلو أطلنا لطال بنا المقام في هذا.
السؤال هنا ممكن نطرح بعض الأسرار التي في الآية: ما وجهُ الابتداء بالحمد هنا ولم يبتدئ بغير الحمد، لم يقل: الشكر لله رب العالمين، قال: الحمد لله رب العالمين؟
لأن أعظم الأمور التي يُعظَّم بها الرب جل وعلا هي الحمد، ولأنه يفيد أنه سبحانه وتعالى مستحقٌّ للثناء والكمال والتعظيم والإجلال فابتُدئ بالحمد، ولهذا ما قال: حمدًا لله رب العالمين، جاء باللام: ﴿الحمد لله﴾ التي تفيد الاستغراق والشمول والاستقصاء لكل معالم الحمد له سبحانه، واللام هنا هي لام الاستغراق. ورُب قائلٍ يقول: تقدَّم لفظ الجلالة على الحمد، هنا لم يقل: لله الحمد رب العالمين بدايةً، لله الحمد رب العالمين جاء بالحمد فقدمه على الاسم العظيم، قد تقول: جاء في آخر سورة ﴿الجاثية﴾: ﴿فلِلَّهِ الحَمْدُ﴾ تقرأ في سورة الجاثية: ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الجاثية:36]، فما وجه تقديم تأخير الحمد هنا ﴿فلله الحمد﴾؟
﴿الحمد لله﴾: هنا جملة خبرية التي في بداية الفاتحة، فيها معنى الأمر، فهو سبحانه وتعالى يُخبر عن نفسه بأنه متصفٌ بالحمد، ويأمر عباده أن يحمدوه، ولم يتقدم هذه الآية شيء قال: ﴿الحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، ما قبلها آية فهي ابتداءٌ، أما سورة الجاثية فقبلها آيات، وما هي هذه الآيات التي قبلها؟ كلها في الردِّ على المشركين الذين يعبدون مع الله غيرَه؛ في أولها وفي وسطها وفي آخرها كله تشنيع على المشركين وعلى آلهتهم وعباداتهم إلى أن قال الله لنبيه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾[الجاثية:18] - وهم المشركون - ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [الجاثية: 19].
وقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ﴾ [الجاثية: 25]، إلى آخر الآية.
﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾[الجاثية: 24]، ما يظنون بالبعث، إذًا قدم الاسم العظيم ﴿الله﴾ الذي يدل على الألوهية كما تقدم بأن فيه ردٌّ عليهم، ردٌّ على هؤلاء المشركين بأنكم مطلوب منكم أن تعبدوا الله حق عبادته؛ لأنه الإله المعبود بحق سبحانه وتعالى، فناسب أن يبدأ بـ ﴿الله﴾ قبل كلمة: ﴿الحمد﴾، فكلمة: ﴿الَحمْدُ لِله﴾ هنا جملة خبرية فيها معنى الأمر، وهي أيضًا جملة اسمية تدل على الاستمرار والثبات والدوام والتجدُّد للإنسان.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: الحمدُ نوعان: حمدُ الله على إحسانه وهو من الشكر، وحمدٌ لله على ما يستحقُّه بنفسه من نعوتِ كماله.
فأنت تحمد الله على أمرين:
الحمد من أجل أنك تشكره على إنعامه عليك.
وتحمده على أنه مستحقٌّ لصفاتِ الكمال والجلال سبحانه وتعالى.
ولهذا قُرئت القراءات المتواترة في ﴿الحَمْدُ لله﴾ بالرفع ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ بالرفع وهي المتواترة على الابتداء، وما بعده خبر، وقُرئ شاذًّا بكسر الدال ﴿الحمدِ لِله﴾ إتباعًا لكسرة اللام في ﴿لله﴾ بالإتباع، وقُرئ بنصب الدال على المصدر أيضًا ﴿الحمدَ لله﴾ وكلها شاذة، لكنَّ قراءةَ الرفع: ﴿الحمدُ لله﴾ أبلغُ وأمكنُ في هذه الحال.
ثم قال هنا الشيخ ذكر: ﴿ربِّ العَالَمِينَ﴾ وأن الربَّ هو المربي لجميع العالمين لجميع خلقه رباهم؛ لأن كلمة: "الرب" أصلها مأخوذ من التربية للشيء وتهيئته وتبليغه وإصلاحه، قال تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾[النساء:23]، والمعنى: أي اللواتي توليتم تربيتهن، وكلمة: "الرب" في اللغة لها إطلاقات، من إطلاقاتها: السيد المالك، أو السيد المُطاعُ، والمعبود حتى ولو كان بغير حقٍّ يُسمى: أرباب" ، ولهذا الله تعالى يقول: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[التوبة: 31]. ﴿أربابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ سماهم.
وفي سورة ﴿يوسف﴾ مثل هذا اللفظ أيضًا، وذلك الذي كان يعبد حجرًا كما جاء في بعض الأبيات الشعرية، كان يعبد حجرًا، فلما خرج ثعلبانٌ وبال على هذا الحجر تعجب منه!، وقال: "كيف أعبدُ الحجر؟!
أربٌّ يبولُ الثُّعلبان برأسهِ *** لقدْ هانَ مَن بالتْ عليه الثَّعالبُ
فليس هذا بربٍّ، فالربُّ المعبود بحق: هو الله جل وعلا.
ومن إطلاقاته أيضًا: القائم بالأمور المُصلح للشيء ومُدبره.
ولهذا جاء في بعض الأحاديث عند البخاري ومسلم في أصل هذا الحديث، يعني أصل كلمة: "الرب" أصلها، قال لصاحبه قال له: هل لك من نعمةٍ تربُّها عليه؟ أي: أنه أصلح لك أمرًا جميلًا، تربُّها: هو إصلاح الشيء، كلمة لفظة: "الرب" لا تُطلق على غير الله إلا بالإضافة، كما قال تعالى: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾[يوسف: 42] بالإضافة، أما إذا عُرِّفت فهي لا تُطلق إلا على الله جل وعلا "الرب" إذا عُرف بأل فلا يُطلق إلا على الله جل وعلا، أما بالإضافة فيُطلق عليه وعلى غيره، قال تعالى: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾[يوسف:41]، وقال: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾[يوسف:50] فأضاف هنا، أضافها إلى الضمير، هذا هو معنى الربوبية.
وذكر هنا معنى: ﴿العَالمينَ﴾؟ العالمين جمع عالَم بفتح اللام، جمع عالم، لا واحد له من لفظه، هناك ألفاظ لا واحد لها من لفظها، مثل: "قوم" لا واحد لها من لفظها، هناك "نساء" لا واحد لها من لفظها، وهناك كلمة: "لحم" قد يُسمى: "لحمة" صحيح، لكن هذا جمع الجموع: "لحوم"، وهنا في كلمة: ﴿العالمين﴾ يُطلق إطلاقات، على من يُطلق؟ أوردها القرطبي في تفسيره، فقال: إنه يُطلق على كل موجودٍ سوى الله، ويُطلق على أهل كل زمان، ويُطلق على الجن والإنس، ويُطلق على كل مَن يعقِل، فإذا قلنا: إنه يطلق على أهل كل زمان مثلما قال الله تعالى: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[الجاثية: 16] أي بني إسرائيل؛ يعني عالَم زمانهم ما هو على الناس كلهم ومن بعدهم لا عالم زمانهم.
وإذا قال الله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾[الفرقان: 1].
وهنا المقصود به المُكلَّف من الجن والإنس صحيح، ولكن الصحيح: أنه كل من سوى الله فهو عالم: عالم الملائكة، عالم الجن، عالم الإنس، عالم الحيوانات، عالم الدواب، عالم ما في البحار، ما في الأرض، ما في السماء، ولهذا لما سأل فرعون موسى قال: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ﴾[الشعراء:23-24].
هذا هو الصحيح.
إذًا ما المراد بالعالمين؟ نقول: هم كل من سِوى الله فهو عالم بدلالة هذه الآية التي في سورة ﴿الشعراء﴾؛ لأنه إطلاقٌ شاملٌ لكل مخلوقٌ موجود، وهذا هو الصحيح الذي ينبغي أن يقال فيها.
وقال هنا: "فدل قول رب العالمين على انفراده بالخلق والتدبير".
ولم يذكر كلمة: ﴿الرحمن الرحيم﴾؛ لأنها تقدمت في البسملة، لكن أردفها أو ذكر ﴿الرحمن الرحيم﴾ بعد ﴿رب العالمين﴾، وهذا فيه دلالة على أن الذي خلق العالمين هو رءوف رحيم بهم وجاء بعدها ﴿رب العالمين * الرحمن الرحيم﴾ فدلَّ على أنه رءوفٌ رحيمٌ بهم فلم يخلقهم لأجل أن يُعذبهم، ولا لأن يؤذيَهم وإنما ليرحمهم جل وعلا؛ فمنهم من قبِل الرحمة ومنهم من ردَّها ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:107]، فالذي قبِل هذه الرحمة آمن به واتبعه، ومن لم يقبلها لم يؤمن به ولم يتبعه.
وأيضًا فيه دلالة على أنه سبحانه وتعالى هو المنفرِد بالخلق والتدبير في هذا الكون العظيم؛ لأنه لما قال: ﴿ربِّ العَالمين﴾ جميعُ العالمين هو الذي رباهم، وأوجدهم من العدم، وأمدهم بالنِّعم، وأعطاهم الخيرات، ودفع عنهم الأضرار والشرور، فهو ربهم سبحانه وهو غني عنهم. نعم.
{(قال تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ المالك: هو من اتَّصف بصفة المُلك التي من آثارها أنه يأمر وينهى، ويُثيب ويعاقب، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، وأضاف الملك ليوم الدين، وهو يوم القيامة، يوم يُدان الناس فيه بأعمالهم خيرِها وشرِّها؛ لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور كمال ملكه وعدله وحكمته وانقطاع أملاك الخلائق. حتى [إنه] يستوي في ذلك اليوم، الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.
كلهم مُذعِنون لعظمته، خاضعون لعزته، منتظرون لمجازاته، راجون ثوابَه، خائفون من عقابه؛ فلذلك خصه بالذِّكر، وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام)}.
نعم، هذه الآية هي الصفة الرابعة لله جل وعلا، وهي التي تجمع جميع أقسام التوحيد بعد هذه الآية، لمَّا قال: ﴿الحمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ﴾: ﴿لله﴾ هذه ألوهية، و ﴿رب العالمين﴾ ربوبية، ﴿الرحمن الرحيم﴾ أيضًا هذه أسماء وصفات، إذًا هذه الآيات الثلاث مع الوصف الرابع جمعت أقسام التوحيد الثلاثة، وهذا بالاستِنباط والاستِقراء، هذا الذي يُعرف، كما سيأتي في سورة ﴿الناس﴾ كذلك ابتدأها بأنواع التوحيد الثلاثة وختمها بأنواع التوحيد الثلاثة ﴿قل أعوذ برب الناس﴾: ربوبية، ﴿ملك الناس﴾: أسماء وصفات، ﴿إله الناس﴾: ألوهية، فابتدأ كتابه بالتوحيد، وختمه بالتوحيد أيضًا، فدلَّ على أنه سبحانه وتعالى مالكٌ لعبادِه، وقوله: ﴿مالك﴾ فيها قراءتان:
القراءة الأولى: ﴿مالك يوم الدين﴾ هي قراءتهم قراءة عَاصم والكِسائي ويَعقوب من العشرة ﴿مالك يوم الدين﴾ وهي من المِلك بكسر الميم ومعناه المتصرف والمُدبر لهذا الكون العظيم، وقرأ الباقون بغير ألف "مَلِكِ يَومِ الدِّينِ".
يقول الشاطبي:
ومالكِ يوم الدين راويهِ ناصرٌ *** وعند سِراط والسِّراط لقُنبل
وبغير ألف: "مَلِك" هي صفة مُشبهة دالة على الثبوت والاستقراء أيضًا وكلها متواترة، وقد توسع ابنُ جرير في بيان معاني أو توجيه هذه القراءة وكذلك القرطبي ورجَّح أو واختار من هذه القراءات وإن كانت كلها متواترة فابن جرير اختار حذفَ الألف وهي: "ملِكِ يوم الدين"، وهي قراءةٌ شاذة يُرجع إليها في تفسير القرطبي رحمه الله ﴿مالكِ يَومِ الدِّينِ﴾، وجعل المُلك هنا خاصٌّ بيوم الدين مع أنه سبحانه وتعالى مالك ليوم الدين ولما قبل يوم الدين في الدنيا هو المالك الحقيقي؛ لأن في يوم القيامة تتلاشى جميع الأملاك البشرية التي كانت في الدنيا ولا يكون لها ذِكر، والمُلك الحقيقي في الدنيا وفي الآخرة هو للهِ جل وعلا، قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾؟ ما يجيب أحدٌ فيُجيب عن نفسه جل وعلا ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر:16]، لا ينفع أحدٌ مُلكَه في ذلك اليوم إلا من أحسن فيه وقام فيه على الوجه الأتم.
إذًا الملك في الدنيا ملكٌ نسبيٌّ يزول وينتهي ويتلاشى في يوم القيامة، ويوم الدين هو يوم الجزاء والحساب وله إطلاقاتٌ في القرآن الكريم، إطلاقات؛ أنه يُطلق مثلًا على الحكم ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف:76]. ﴿في دين الملك﴾ أي في حُكم الملك، ويُطلق أيضًا على الإسلام والتوحيد ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾[آل عمران:19]، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾[المائدة: 3]، والذي يعتني بهذا هو الدَّامَغاني في "الأشباه والنظائر"، أو ابن الجوزي في "الوجوه والنظائر" لابن الجوزي يعتني بالألفاظ القرآنية ويُبين فيها إطلاقات المفسرين للفظ ويُرجع إليهم، والشيخ هنا ذكر وجهَ تخصيص الإضافة بيوم الدين في كلامه العام، وفائدة تخصيص الإضافة هنا: ﴿مالكِ يومِ الدِّين﴾ تفيد تعظيم ذلك اليوم، وأنه يومٌ مُعظمٌ عند الله؛ لأن كل مَلكٍ ومُلكٍ يزول في ذلك اليوم وينسلخ ولا يبقى له وجود، هذا وجه الإضافة هنا؛ لأن ملكه سبحانه وتعالى يظهر جليًّا في يوم القيامة يظهر جليًّا، تتلاشى فيه جميع الأملاك، ويعترف به كل مخلوق، يعترف بذلك الملك لله كل مخلوق، حتى الجاحدون يعترفون بذلك في ذلك اليوم، قال تعالى: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك:11].
كلمة: "الاعتراف": جاءت من المشركين في القرآن الكريم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا﴾ جاء ...... ﴿فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا﴾[غافر: 11]، كلمة: "الاعتراف" بالنص أنهم سيعترفون، كل من مات من الكفار ومن هو على وجه الأرض سيموت على الكفر سيعترف يوم القيامة بأنه على خطأ، بأنه على ضلال، ويتمنى الرجوع إلى هذه الدنيا ليعمل صالحًا وأنَّى لهم ذلك، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام:27] في سورة الأنعام، وفي سورة أيضًا فاطر، وفي سورة السجدة: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 12]. إلى آخر الآية.
يبين لك أنه سيكون هناك اعتراف، فنحمد الله على الإيمان، فالإنسان يحمد الله على أنه مؤمن يموت على الإيمان ﴿أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101].
إذًا هذه الآية الكريمة فيها تخويفٌ للعباد جميعًا أنه سيأتي يوم القيامة ويحاسَب فيه العباد على ما اقترفوه من الذنوب، وقضية البعث والنشور من أكبر القضايا التي أبدأَ القرآنُ فيها وأعاد، كثير ويضرب الله تعالى الأمثلة فيها حتى يروا بأعينهم ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾[الروم: 50]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾[الروم: 20]، ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾[الروم: 17-19]. تخرجون للبعث، والبعث حصل في الدنيا قبل الآخرة لبعض الناس الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذرَ الموت ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: 243] بعثَهم.
وأهل الكهف مكثوا ﴿ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾[الكهف: 25]، ثم بعثهم الله تعالى فجاء بكلمة: "البعث"، وبنو إسرائيل بعثهم الله تعالى ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 56] يعتبر، لابد من العبرة في هذا، الذي يُنكر هذا الشيء الله تعالى بينه في الدنيا، وأما في الآخرة سيكون واضحًا وبَيِّنًا؛ لأن الذي خلقَ فالإعادةُ عليه أهون ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الروم: 27].
إذًا هذه الآية تدل على وقوع اليوم الآخر، وإثبات اليوم الآخر، وهو حقٌّ وصدق، وفي ذلك ترغيبٌ وترهيبٌ للعمل الصالح والبُعد عن المعاصي والذنوب، ولهذا تتكرر قراءة هذه الآية في كل صلاةٍ يَعتبرُ الإنسان بها هذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿مالك يوم الدين﴾. نعم.
{(قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أي: نخصُّك وحدَك بالعبادة والاستعانة؛ لأن تقديم المعمول يفيد الحصْر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه. فكأنه يقول: نعبدك، ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك. وقدَّم العبادة على الاستعانة من باب تقديم العامِّ على الخاص، واهتمامًا بتقديم حقه تعالى على حق عبده.
و ﴿العبادة﴾ اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة. و ﴿الاستعانة﴾ هي الاعتمادُ على الله تعالى في جلبِ المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
والقيامُ بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيلَ إلى النجاة إلا بالقيام بهما. وإنما تكون العبادةُ عبادةً إذا كانت مأخوذةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودًا بها وجهَ الله. فبهذين الأمرين تكون عبادةً، وذكر ﴿الاستعانة﴾ بعد ﴿العبادة﴾ مع دخولها فيها؛ لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يُعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي)}.
نعم، شرع الشيخ الآن في بيان معنى: "العبادة والاستعانة" على وجه المعنى الإجمالي؛ لأن العبادة في الأصل في اللغة: هي التذلُّل، يقال: (طريقٌ مُعبَّدٌ إذا كان مُذلَّلًا) يستطيع السائر أن يسير فيه، فإذا كان مُذللًا مُهيئًا للوطء والمشي عليه هذا هو معنى التذلل في أصل اللغة، ويلزم من العبادة هنا: أن تكون مُلازمةً للخضوع والتذلل لله جل وعلا، هذان ركنان في العبادة؛ ولهذا يقول ابن القيم: "وعبادةُ الرحمن غايةُ حبه" - مع الحب والخضوع -
وعبادة الرحمن غاية حبه *** مع ذلِّ عابده هما قطبان
وعليهما فلكُ العبادة دائرٌ *** ما دار حتى قامت القُطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله *** لا بالهوى والنفس والشيطان
مع المحبة والخضوع هذه هي العبادة تكون مع محبةٍ وخضوع وذِلة لله جل وعلا، بمعنى أن العبادة كما أخبر الله تعالى عن أركانها، وأن أركان العبادة ثلاثة:
المحبة.
والخوف.
والرجاء.
هذه هي أركان العبادة، نأخذها من آية واحدة آية الإسراء ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء:57]. هذه الآية الكريمة جمعت أركان المحبة الثلاثة.
إذًا إذا قيل لك: ما أركان المحبة؟ فقل: ثلاث، أما أركان العبادة؟ فقل: ثلاثة" المحبة التي هي مذكورة في الوسيلة: التقرب إلى الله، الوسيلة، والخوف، والرجاء. هذه أركانها مع أن لها أيضًا التذلل والخضوع لله جل وعلا، هذه هي العبادة الحقة التي أرادها الله تعالى من عباده، والعبادة لا تؤخذ إلا من القرآن ومن السُّنة، فهي حق الله الأعظم؛ ولذلك قدَّم الضمير في ﴿إياك﴾ : ﴿إياك نعبد﴾ فقدمه، فكلمة: "إيَّا" ضمير منفصل، والكاف هنا "إياكَ" حرف خطاب لله تعالى.
إذًا بعد أن وصف العبد ربَّه بتلك الأوصاف ﴿الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين﴾ وصفَ العبدُ أيضًا ربَّه بأنه مختصٌّ بالعبادة، فقوله: ﴿إياك نعبد﴾ أي: لا نعبد إلا إياك ربنا المتصف بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات التي تقدمت في الآية، إياك نعبد يا ربنا المتصف بصفات الألوهية والربوبية، وصفات الأسماء والصفات، وصفات المُلك التَّام الكامل، كل الكلام هذا يأتي حتى يتهيأ العبد ليدعو ربه؛ لأنه بعدها سوف يدعو ربه، التهيئة هذه اسمها: "التهيئة" كما سيأتي بيانها.
إذًا العبد يخاطب ربه ويناجيه بضمير الخطاب دون واسطة، والإقرار باختصاصه بالعبودية بالعبادة والقدرة على العون والطاعة والهداية، وهذا هو سر الالتفات والانتقال من الغيبة إلى الخطاب، انتقل من الغيبة إلى الخطاب ﴿إياك﴾ هذا خطاب، وهذا هو السر في الالتفات في هذا ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ إذًا قوله: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ قدَّم هنا ﴿إياك﴾، ولم يقل: "نعبد إياك"، فقوله: ﴿إياك﴾ مفعولٌ به مُقدَّم للاختصاص؛ لأن العامل فيه ﴿نعبد﴾؛ العامل في إياك: ﴿نعبد﴾، وتقديم المعمول يفيد الحصر والقصر عند أهل البيان، أي: لا نعبد إلا إياك ولا نعبد غيرك يا ربنا، فتقديمه المفعول هنا يدل على الاختصاص والحصر والقصر في هذا؛ لأن هذا هو المعنى المفهوم من هذه الآية.
إذًا نقول: هناك معنى للفظ معنًى لغوي، وهناك معنى تفسيري ولابد أن يُفهم هذا المعنى التفسيري والمعنى اللغوي؛ فالمعنى التفسيري هنا: نخصُّك يا ربنا بالعبادة والاستعانة ولا نُشرك معك غيرك في ذلك، والعبادة هنا عامة تتناول جميع أنواع العبادة: العبادة القولية، والقلبية، والعملية، والمالية كلها يتناولها على حدِّ قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21].
إذًا العبادة مع هذا التعريف الجامع الذي ذكره الشيخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية نقول: مع التذلل والخضوع لله جل وعلا، فأنت تضع جبهتَك في الأرض تسجد ذِلةً وخضوعًا لله سبحانه وتعالى واستجابةً لأمره القائل: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾[العلق: 19]. المتعلق هنا محذوف يعني ﴿إياك نعبد﴾ نعبد ماذا؟ عامة يعني هنا المتعلق محذوف، والاستعانة محذوف ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ العامل لم يُذكر هنا، وهذا كثير في القرآن ليعمَّ؛ ليعم كل عبادة ويعم كل استعانة لله جل وعلا، والاستعانة هي طلب العون؛ لأنك تطلب من الله أن يعينك، كما قال سبحانه: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾[البقرة: 45]؛ أي: اطلبوا العون من الله.
الاستعانة لغةً: طلب العون، هذا لغةً، تفسيرًا: نطلب عونَك لنا يا ربنا على طاعتك وعلى أمور ديننا كلها، هذا معنى التفسير، إذًا تُعرِّف اللفظة معناها لغويًّا ثم تعرفها معناها تفسيريًّا أو بيانيًّا أو معنىً، وإن كانت هنا العبادة عامة لا يُخصَّص منها شيء، كلها لله والاستعانة أيضًا عامة ولكنها تختلف عن العبادة؛ لأنك قد تستعين بغيرك فيما يقدر عليه، الإنسان يستعين بالإنسان فيما يقدر عليه، الحي يستعين به، واستعانتك بغيرك هي استعانةٌ من الله لك، يعني أنت إذا طلبت العون من غيرك في أمرٍ ما فهي استعانةٌ في الأصل من الله تعالى لك مثل: الإنعام، أنت تُنعم على أحد بنعمة تعطيه فهي أصلها نعمة الله عليك، كما قال سبحانه: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾[الأحزاب: 37].
فنعمتك يا محمد صلى الله عليه وسلم على زيدٍ بن حارثة هي من نعمة الله عليك، فالاستعانة تُطلب أيضًا من المخلوق الحي القادر في ذلك. إذًا كلمة: ﴿إيَّاكَ نعبدُ﴾ متعلقة بماذا؟ متعلقة بالألوهية، و ﴿إياك نستعين﴾ متعلقة بالربوبية، فـ﴿إياك نعبد﴾: هذه ألوهية، ﴿إياك نستعين﴾: ربوبية، شوف كيف التعلق؟! متعلقة بما تقدم بها حتى يُعرف؛ لأن العبادة: هي طلب الله تعالى من العبد، و الاستعانة: هي طلب العبد من الله.
أعيد: العبادة هي طلب الله من العبد أن يعبده، والاستعانة: طلب العبد من الله أن يعينه على ذلك، هذا هو معناها. طيب، ما وجه تكرار الضمير هنا ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾، ولم يقل: إياك نعبد ونستعين؟ للحثِّ على المبالغة في طلب العون من الله، وأن طلب العون من الله هو أصله عبادة، فيه نقول: مبالغةٌ في طلب العون من الله تعالى للعبد، وأن الاستعانة هي من العبادة؛ لأنه لا يكون عونٌ للعبد إلا بتوفيق الله، فأنت تتعبَّد الله تعالى بالاستعانة وأن تطلب منه أن يعينَك تقول: (اللهم أعنِّي)؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ: «لا تدعن دُبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذِكرك وشكرِك وحُسنِ عبادتك».
«أعني»: فأنت تطلب العون من الله جل وعلا.
فلذلك على العبد وهو يقرأ مثل هذه الآية أن يطلبَ العون من الله، ولا يحتاج إلى مخلوقٍ إلا عند الاضطرار فيما يقدر عليه؛ لأن بعض الناس حتى على أشياء قليلة يذهب إلى فلان أشياء قليلة باستطاعته أن يُدركها ويُحققها لكن كسل منه هو؛ لأن الحاجة إلى الناس مذلة، ولهذا يقول القائل كما يقول شيخ الإسلام في أول الفتاوى عند الاستعانة: "بين التذَلل والتدلُّل" – يعني مع العبادة - كونك تتذلل له أو تتدلل –
بين التذلُّل والتَّدلل نقطة *** تتحير في رفعها الأفهام
يعني مثلما يقولون عندنا في العوام: "تدلل ما تذلل تقول كذا وكذا أنا أريد كذا وكذا! خليك رافع الرأس عزيز"، ويقول حاتم الأصم: "واعلم أن الإنسان يكون عزيزًا مُكرمًا عند الناس ما لم يحتج إليهم، فإذا احتاج إليهم ولو في شربة ماء قل قدرُه عندهم".
بقدر حاجته إليهم، فتوجَّهْ إلى الله واطلب من الله العون، وفيها رد على القبوريين والصوفية، هذه الآية، الذين يذهبون إلى الأموات وإلى القبور وإلى الأضرحة ويطلبون منها العون والمدد ﴿أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾[الأنعام: 31]، ﴿أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾[النحل: 59]، ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[الكهف: 104].
وهذه الآية الكريمة: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ هي الآية التي يدور عليها فلك القرآن وتنزُّل القرآن كله على هذه الآية الكريمة: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ فيها وقفات عظيمة هذه الآية في معانيها ودلالتها، انظر إلى الحديث الآن الذي في صحيح مسلم كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذُ أو يطلب الاستعاذة ويستعيذ بالله ثم يعترف، يقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
يعني دعا ثم اعترف ثم أتبعه بالاعتراف بالعجز وهو الكامل، وهو الرسول الكامل البشري، اعترف أمام ربه بالعجز في الدعاء قال: "لا أُحصي ثناءً عليك" - هذا الاعتراف - "لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، أي: لا أستطيع يا ربي أن أوفِّيَ لك الشكر والحمد على نعمِك وأفضالك وخيراتك عليَّ. أنا قرأت وأنتم تسمعون مثل هذا الدعاء في رمضان كثيرًا، وهذا كان يقوله في آخر الليل عليه الصلاة والسلام «لا أحصي ثناءً عليك» اعتراف منه عليه الصلاة والسلام بالعجز أمام ربه جل وعلا.
قال العلماء في هذه الآية قوله تعالى: ﴿نعبد﴾ ردٌّ على الجبرية الذين يقولون: إن العبد ليس له إرادة ولا مشيئة، هذا ردٌّ عليهم، وليس له فعل، وفي قوله: ﴿نستعين﴾ ردٌّ على القدرية الذين يقولون: إن العبد هو الذي يخلق فعلَه، هو الذي يخلق فعله بنفسه بدون إرادة من الله ! كيف يخلق فعله والله تعالى يقول: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصافات:96]؟! ردٌّ لآيات القرآن وهم لا يشعرونه، أو يؤولونها على غير تأويلها الصحيح، بالعقل يأخذون المعنى بالعقل وليس بالأثر هذا هو الواقع فيهم.
إذًا نقول في الرد على مثل هؤلاء: أن استعانة العبد في الآية تدل على أن مشيئة العبد غير نافذة إلا بإذن الله تعالى، فلولا معونة الله تعالى لعبده لما تمكن من العبادة لولا معونة الله تعالى للعبد ما تمكَّن من العبادة؛ لأن هناك أُناس كفار حكم الله عليهم بالكفر وأنهم يموتون على الكفر، خُلقوا كفارًا وسيموتون كفارًا، هذا في علم الله، وقد ثبت هذا في عهده عليه الصلاة والسلام ممن مات على الكفر: ابن معيط، وعمه، وأبو جهل، وأبو لهب، وهذا في آية تدل على ذلك والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾[البقرة: 6].
لأنه سبق فعلهم من أنهم لا يؤمنون لكن لا يمنع هذا من الدعوة تدعو إلى الله لأنك لا تعلم هذا الشيء، والله تعالى قد قال فيهم: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ﴾ ماذا بعد؟ ﴿وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾ الموتى يكلمونهم ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا﴾ ماذا؟ ﴿مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾[الأنعام:111].
لأنه سبق فعلهم من أنهم لا يؤمنون، انتهى الأمر، فلذلك هناك صِنفٌ من الكفار يموتون على الكفر، وصِنفٌ من الكفار يُسلمون ويؤمنون ويتوبون ويغفر الله لهم، وهذا كله في علم الله جل علا، وأما الأنبياء فإنهم مأمورون بالبلاغ والدعوة ولا يعلمون شيئًا وكذلك العلماء والدعاة في هذا الأمر، وأشار الشيخ إلى أن العبودية هنا على نوعين:
عبودية عامة.
وعبودية خاصة.
كما تقدم في "الرحمة" أيضًا، وأن العبودية العامة هي لكل المخلوقين ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم:93] نعم هذا خبر، والخاصة هي عبوديةٌ لأوليائه، لأهل محبته ورضوانه، وأهل طاعته هو الانقياد، وهذا كثير في القرآن ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا﴾[الفرقان:63]، ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾[الزمر:17]، فهؤلاء هم عباد الله عباد الرحمة عبادة خاصة، ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا﴾[ص:45]، ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا﴾[ص:17] فهذه عبادة خاصة، وكما قلنا: إن العبادة عامة لكنها أيضًا تكون على ثلاثة أنحاء:
عبادة القلب.
وعبادة اللسان.
وعبادة الجوارح.
وهذه ينبغي على المسلم أن يراعيها ولا يخالف شيئًا منها في عبادة الله، في قلبه التعظيم لله وفي لسانه النطق والتحميد والشكر والتسبيح والتهليل، وفي جوارحه الانصياع فلا يدخل في محرم ولا يشاهد محرم ولا يسمع محرم وإلا خالف العبادة، ونقص حظه في هذه العبادة، فكيف الإنسان الآن يصلي كل يوم خمس صلوات اختلافًا عن النوافل ويقول: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾، ويذهب ليرتكب المعاصي والمحرمات !، أو يتعاطى الربا، أو يتعاطى الزنا !، فهذا مخالف للعبادة مخالف للعبادة ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[العنكبوت:45]، لكن قد يكون صلاة بلا قلب بلا حضور بأن يتبع الشهوة هذه شهوات والله تعالى يقول: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾[مريم:59]، لماذا قرن الشهوات بالصلاة؟
لأنه يصلي هو يصلي لكنه يُضيع صلاته باتباع الشهوات يصلي ثم يذهب إلى الشهوات المحرمة، أي صلاةٍ هذه؟ هذه إضاعة للصلاة والله مُطلعٌ عليك ويعلم عنك ذلك ﴿فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى﴾[طه:52]. لا يخفى عليه شيء، لكن يوم القيامة يبدو ذلك للناس كلهم ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة:6] هم الذين ينسونه، والله هو الذي يحصيهم، فالعبادة هنا نوعان: عامة وخاصة، والعبودية هي وصف أكمل الخلق وصف أكمل خلق الله جل وعلا وهم الأنبياء؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء:172]، فكلهم عبيدٌ لله، وقد وصف الله تعالى نبيه في أعلى المقامات بوصف العبودية وليس بوصف الرسالة ولا النبوة، قال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان:1] مقام التنزيل ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾، ولم يقل: (رسوله) هذا في إنزال القرآن، وفي مقام الوحي ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾[النجم:10].
وفي مقام الدعوة ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾[الجن: 19] أعلى المقامات، وفي الإسراء أيضًا الرابعة ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾[الإسراء:1]؛ لأن العبودية لله شرفٌ وعزٌّ وعلو ورفعة، ولذلك وصف الله تعالى بها أكمل خلقه.
يقول ابن القيم: "إن تقديم العبادة على الاستعانة في الآية من باب تقديم الغايات على الوسائل".
لأن العبادة هي الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، فمن أعرض عن هذا السبيل أي العبادة تعِس وانتكس، واقترنت به شياطين الجن والإنس يؤزونه يزيدونه بُعدًا ومروقًا عن الدين والفطرة قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ يعني: عن عبادة الرحمن ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾[الزخرف:36]؛ لأننا نذكر الآية ونذكر ما يدل عليها من القرآن ما في شيء جديد، من القرآن وكلام الله وكلام رسوله وبيان كلام العلماء في هذا، وقال تعالى عنه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾[مريم:83] يعني: استمروا على ما أنتم عليه، يُزينون لهم الباطل، ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾[العنكبوت:38]، القرآن ينطق بالحق، يكفي أن الإنسان يقرأ كلام الله ويعرف الحق ...، لا يقرأ إلا بتدبُّر وتأمل وجمع للآية مع الآية؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضًا والآية تشهد للآية، وهكذا، هذا هو العلم الذي ينفع الإنسان ويفيده في حياته ودنياه، والكلام على الاستعانة يطول، على الاستعانة والعبادة والاستعانة، ولكن ما ذكرناه فيه الكفاية. نعم.
{(قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أي: دلنا وأرشدنا ووفقنا للصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله، وإلى جنته، وهو معرفة الحق والعمل به، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علمًا وعملاً. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد؛ ولهذا وجب على الإنسان أن يدعوَ الله به في كل ركعةٍ من صلاته؛ لضرورته إلى ذلك.
وهذا الصراط المستقيم هو: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ﴿غَيْرِ﴾ صراطِ ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير صراط ﴿الضَّالِّينَ﴾ الذين تركوا الحق على جهلٍ وضلال، كالنصارى ونحوهم.
فهذه السورة على إيجازها، قد احتوت على ما لم تحتوِ عليه سورة من سور القرآن، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾)} .
هذا الكلام الذي في قوله: "فتضمنت" يعني بيان مقاصد السورة، بيان مقاصد سورة الفاتحة، أو بيان ما اشتملت عليه من الأغراض. نعم.
{(فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيدَ الربوبية يؤخذ من قوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وتوحيدَ الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة يؤخذ من لفظ: ﴿اللَّهِ﴾، ومن قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، وتوحيد الأسماء والصفات، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى، التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله من غير تعطيلٍ ولا تمثيلٍ ولا تشبيهٍ، وقد دلَّ على ذلك لفظ ﴿الْحَمْدُ﴾ كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ لأن ذلك ممتنعٌ بدون الرسالة.
وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ وأن الجزاء يكون بالعدل؛ لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.
وتضمنت إثباتَ القدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً خلافًا للقدرية والجبرية، بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [والضلال] في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع [وضال] فهو مخالف لذلك.
وتضمنت إخلاصَ الدين لله تعالى، عبادةً واستعانةً في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فالحمد لله رب العالمين)}.
بدأ بهذه الآية: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ما تقدم قبل هذه الآية فهو حمدٌ وثناءٌ وتمجيدٌ لله جل وعلا، وبعد ذلك بدأ بالدعاء، وهذا الدعاء لم يأتِ إلا بعد أن يُقدم المسلم بتلك المقدمة العظيمة؛ لذلك ينبغي للمسلم إذا أراد أن يدعو ربه أن يُقدم بين يديه الثناء والتعظيم له سبحانه، وهذا دل عليه القرآن أيضًا في مواضع عندما قال الله جل وعلا: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾[البقرة:184]، قال قبلها: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185] أمرهم بأن يكبروا الله ويعظموه ثم يدعوه، وكان هذا من منهج الأنبياء عليهم السلام، وفي سورة الشعراء بَيَّن الله ذلك بيانًا واضحًا بَينًا شافيًا في قصة إبراهيم عليه السلام لما كان يدعو قومه قال: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾[الشعراء: 78-80].
إلى أن قال: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي﴾ [الشعراء:82-83]
دعا ربه، بعد ماذا دعا ربه؟ بعد التعظيم بعد أن عظَّم ربه، دعا ربه، وهذا أمرٌ ينبغي أن يتنبه له العبد إذا أراد أن يدعو فيُثني على ربه بما هو أهله سبحانه، ثم بعد ذلك يدعو، وهكذا في هذه السورة، سورة ﴿الفاتحة﴾ قال: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ طلب الهداية بعد ماذا؟ أن أثنى على ربه جل وعلا وحمِده ومجده بذلك، وهذا يسميه العلماء: "الدعاء الواجب" أين الدعاء الواجب على العبد أن يقوله؟ هو هذا ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾؛ لأن قوله: ﴿اهدنا﴾ هو دعاءٌ وطلب، دعاء وطلب، وصيغة الدعاء والأمر واحدة؛ لأن كلًّا منهما طلب، وهذا من أفضل الأدعية، أن يدعو به الإنسان؛ لأنك تدعو إلى الصراط المستقيم، والصراط المستقيم هو الإسلام، هو القرآن، هو السُّنة، هذا هو الصراط؛ ولهذا فُسر بهذا، فُسر بأنه الإسلام، وفُسر بأنه القرآن وبأنه السُّنة، وهذا تفسيرٌ بالمثال وكلها معانٍ متقاربة تحتملها الآية وتدل عليها، تدل على هذا؛ لأنه لا يمكن إسلامٌ بلا قرآن ولا سُنة ولا يمكن قرآن وسُنة بلا إسلام كلها مع بعض هذا هو الصراط.
إذًا نقول: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ هو الذي جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾[الأنعام:153]؛ هذا هو الصراط المستقيم: (الإسلام)، فتأمل كيف أمر ثم نهى؟ الأمر في ﴿فاتبعوه﴾ وجوب، والنهي ﴿ولا تتبعوا﴾؛ لأن تأخير الأمر عن وقت الحاجة لا ينبغي فلم يأت في القرآن بأمرٍ واجب إلا وبعده النهي مباشرة، تأمله في القرآن كله!.
يقول تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ﴾[الأعراف:3] "نهيٌ".
وقال: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾؟ أمر - ﴿وَلا تَتَفَرَّقُوا﴾[الشورى:13].
وقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران:103] يأمر ثم ينهى، وهذا هو منهج القرآن الكريم في هذا.
"والصراط": الصراط كما ذكر الشيخ هنا: هو الطريق الواضح البَيِّن الذي لا اعوجاج فيه، في هذا؛ لأن الصراط هو الطريق، ويُسمى لغةً وسيأتي السِّراط بالسِّين يسمى السِّراط وهو الطريق، قالوا: لأنه يبتلع من يمشي عليه، فإذا مشى عليه الإنسان ذهب ومشى، كالابتلاع!!
الصراط: هو الطريق المُعبَّد، في أصل اللغة: الطريق المُعبد الواضح الذي لا اعوجاج فيه، هذا هو الطريق، والإنسان بعقله إذا رأى طريقين: طريقًا سالكًا وطريقًا غير سالك، وهو يذهب إلى الطريق السالك؛ لأن هذا صراط، ماشي، أما الطريق الذي لا يعلمه قد يتضرر به، فالإسلام طريقٌ واضح بَيِّن ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾، وزاد وضوحًا بوصف الصراط بأنه مستقيمٌ لا اعوجاج فيه، كما يقول الطبري: "الصراط المستقيم هو الطريق البَين الواضح الذي لا اعوجاج فيه"، وهو دين الإسلام منذ أن شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، والإسلام بعامةٍ هو الذي بُعث به نوحٌ عليه السلام، هذا بمفهومه العام، الإسلام هو دين الأنبياء؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾[آل عمران:19].
وأما بمفهومه الخاص: فهو شِرعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة: 48] هذا هو المعنى اللغوي، وأما المعنى التفسيري لقوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ أي: دُلنا وأرشدنا يا ربنا ووفقنا إلى سلوك الصراط الذي شرعته لنا، والصراط وُصف في القرآن بأنه مستقيم في أكثره كله إلا بعض الآيات القليلة ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج: 24]، ما فيه استقامة، لكن جاءت كلمة: ﴿الحميد﴾ تدل على الاستقامة في هذا، ووصف بأنه مستقيم في هذا.
إذًا لزوم الصراط المستقيم هو الإسلام، تطبيق الإسلام كاملًا بدون مخالفةٍ فيه، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ﴾ - الإسلام هو الشريعة - ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ - تسير عليها - ﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18] من الضُّلال، من المشركين، من اليهود، من النصارى، من العُصاة، من غيرهم، هؤلاء هم الذين يضلون عن الصراط المستقيم، ويزيغون. ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28] منفرطٌ، فهذا ابتعد عن الصراط المستقيم، وأي إنسان يمشي في خط مستقيم مثل إنسان يسافر الآن من القصيم للجنوب لكذا للشمال ما يستطيع أنه يطلع على الطريق، مباشرة هذا الدوران، سيتضرر، يأتيه حادث أو يأتيه شيء وهو متمسك أنه ما يزيغ عن هذا الخط ويمشي عليه، إذًا هذا هو العمل في الإسلام تمشي على الخط المستقيم في التطبيق وفي العمل، وإذا ما دعتك نفسك إلى شيء يخالفه فتب إلى الله، فتب إلى الله، ارجع؛ لأن الإنسان يُذنب لكنه يتوب إلى الله ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه:82].
قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾؛ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هنا لاحظوا معنا فن لغوي دقيق:
هنا لم يتعد بشيء ما قال: (اهدنا إلى الصراط) ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾؛ لأن لفظ الهداية إما تتعدى بنفسها أو تتعدى بحرف، وهنا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾ مثل هذه الآية، ومثل قوله تعالى: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾[الفتح:2] ما فيها تعدي بحرف، مثل: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10] ما قال: (وهديناه إلى النجدين)؛ ﴿وهديناه النجدين﴾، لكنه قد يتعدى بحرف إما "إلى" أو "اللام"، اللام مثل: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراء:9] هذه ماذا؟ اللام، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾[الأعراف:43] باللام تعدى باللام ما تعدى بنفسها، وإذا تعدى بالحرف الثاني بـ "إلى" ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الشورى:52]، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾[الحج:54]، ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الأنعام:87].
يعني إما أن يتعدى لفظ الهداية بنفسه كهذه الآية، والآيات الأُخر ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10]، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[الإنسان:3]، وإما أن يتعدى بحرف "إلى"، أو بحرف: "اللام".
يقول سائل: ما وجه ذلك؟ ما فائدة ذلك؟ ما وجه التعدية بنفسه؟ تعدية الفعل بنفسه ما وجهه في هذه الآية؟ قال: ليجمع عدة معانٍ في آنٍ واحد؛ لتجتمع لديك عدة معانٍ في آن واحد، ولأن التعدية بدون حرف ماذا تعني؟ تعني أنك في الصراط المستقيم ملازمٌ له، أنك في وسط الصراط المستقيم، فالذي يصلي هو سائر في الصلاة المستقيم ما يحتاج إلى تعدية في الحقيقة، والذي يذكر الله والذي يصلي والذي يزكي والذي يصوم والذي يحج والذي يتعبد الله ويقوم الليل هو في الصراط المستقيم، يعني متلبِّس بالصراط المستقيم في هذه الحالة، فمن كان فيه، من كان في هذا الصراط هو يطلب الهداية في الثبات عليه، يطلب الهداية في الثبات عليه، ويزداد؛ لأنه إذا طلب الثبات والهداية عليه فالله تعالى يزيده ويعطيه، يقول تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾[مريم:76] يزيدهم هداية على هداية، وقال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد:17] يعطيهم هداية؛ لأن الله كريم، فضله واسع عظيم من أقبل إليه أعطاه وزاده، من شكره زاده، من ذكره أعطاه زيادة عظيمة، من أحب القرآن كل يوم زادت هدايته؛ لأن كل ما تنزل آية في وقت الصحابة يثبتُون ويزدادون هداية على هداية، فأنت عندما تقرأ سورة أو آية فتزداد هداية على هداية، هداية على هداية، وكم هداية تجمع في هذا؟ شيء كثير، أين العقول التي تُدرك ذلك؟
لذلك المُصلي يطلب من ربه الهداية كل يوم؛ ليثبت عليها حتى لا يزيغ عن هذه الهداية؛ لأن العبد مفتقرٌ إلى ربه في كل لحظة، في كل لحظة مفتقرٌ إلى ربه، وحاله يطلب منه التثبيت والهداية، إذًا معنى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أي: ثبتنا يا ربنا على هذا الصراط المستقيم الذي شرعته لنا ووفقتنا له، واهدنا يا ربنا إذا ما زغنا وضللنا عنه، أرجِعنا إليه، أرجِعنا إلى هذا الصراط يا ربنا؛ لأن الإنسان بشر قد يذنب فيطلب من ربه هذا الدعاء في الصلاة ليرجع إلى ربه؛ لأن الإنسان مركب فيه غرائز يُذنب ويعصي لكنه يرجع، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم».
لكن هناك شروط للتوبة، ما هو كل إنسان يُذنب ثم يتوب ثم يُذنب فهذه مخادعة لله!، فالله تعالى وضع شروطًا فيها، ما هو البشر الذين وضعوا الشروط، الله الذي وضع الشرط في هذا، الآية، الآية ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه:82] "اهتدى" ما هو؟ لا يرجع للذنب مرة ثانية إلا إذا غلبته نفسه وهواه وشيطانه فيرجع، لكن كونه يُحدِّث نفسه أنه يرجع ثاني مرة لا، فهذه مخادعة لله.
يقول أبو حيان في التفسير: ومضمون هذه الجملة الذي هي ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم الله عليه؛ لأن من صدر منه حمد الله وأخبر بأنه يعبد الله ويستعينه فقد حصلت له الهداية، لكنه يسأل دوامها والاستمرار عليها وبقاءها له حتى يُختم له بالخير، يُختم له بعمل صالح، والشيخ ما ذكر أنواع الهداية هنا، لكن العلماء يذكرونها ﴿اهدنا﴾، والهداية كما تعلمون هدايتان:
هداية دلالةٍ وإرشادٍ وبيان.
وهداية توفيقٍ وإلهام وقبول.
الأولى تكون من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو البيان والإرشاد والدلالة فهي هداية عامة، ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الشورى:52]، الإنسان يريد أن يهدي غيره، هذه هداية عامة، وأما هداية التوفيق والإلهام والقبول فلا تكون إلا من الله ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[القصص:56]، ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة:272]، قال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النحل:9]، وقال سبحانه: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[طه:50].
هذه هداية القبول والتوفيق والإلهام، فهي لا تكون إلا من الله؛ فالإنسان يطلب هذه الهداية من الله ويسعى أيضًا في هداية غيره إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، الصراط المستقيم وُصف بأنه مستقيم، المستقيم قالوا: هو اسم فاعل من استقام، وهو المعتدل الذي لا اعوجاج فيه ولا تعاريج، فلا يضل سالكه ولا يتردد ولا يتحير، مثل إنسان يمشي في طريق بري مسفلت تام ومنور وعليه علامات وهو مطمئن ماشي في هذا الخط وهو مطمئن وعليه إرشادات ولوحات لا اعوجاج فيه ولا يتردد ولا يتحير، كذلك المسلم الذي أنعم الله عليه بالإسلام يعلم أنه في طريق الإسلام طريق صحيح واضح بَين يهدي للتي هي أقوم، يهدي إلى الله ويهدي إلى رضوانه، ولكن ليس ثمة معرفة بهذا الصراط إلا من طريق القرآن والسُّنة، لا يُفسر الصراط على الهوى، وجاء في قراءات فيها؛ جمهور القراء قرؤوا بالصاد الخالصة ﴿اهدنا الصراط﴾، وقرأ قُنبل بالسين، وقرأ أيضًا حمزة بالإشمام الإشمام بين الصاد والسين، فالجمهور بالصاد هي لغة قريش، ومن قرأ بالسين لأنها الأصل، ومن قرأ بالإشمام هو خلط صوت الصاد بصوت الزاي، فيتولد منهما حرفٌ ليس بصادٍ ولا بزاي، فتقول: (اهدنا الصراط) ليست صادًا خالصة ولا سينًا خالصة، وعند سراط والصراط لقُنبلا.
وفيها إشمام، أيضًا الإشمام هو الخلط هنا بين هذا، الصراط هنا السؤال: هل هو مُعرف أم منكر؟ مُعرف، صح الصراط هنا معرف؛ لأن الصراط يأتي معرفًا في بعض الآيات ويأتي مُنكرًا في بعضها، وأما في هذه الآية فإنه مُعرف وهذا من المسائل المهمة تعريفًا باللام، وهنا زيادة التعريف ففيها تعريفان:
تعريف باللام.
وتعريف بالإضافة.
(اهدنا الصراط صراط الذين) مضاف، وهذا تعريف، فما يقال: الثاني نكرة وإنما هو معرف، ما فائدة ذلك التعريف باللام والتعريف بالإضافة؟
فائدته: تعيينه واختصاصه وأنه صراط واحد لا يتعدَّد، يجب اتباعه وسلوكه؛ لأنه الطريق المُوصل إلى الله تعالى وإلى جنته، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي﴾ - هذا مُعرف بالإضافة - ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾[الأنعام:153]. إذًا زيادة التعريف الأول فيه زيادة بالتعريف بالإضافة، فاكتسب تعريفين، اكتسب الصراط تعريفين في هذا، وهذا يدلك على أن هذا هو الصراط الواحد الذي لا يتعدد ولا يتغير، ثابت، هذا هو الصراط الذي أمر الله تعالى بسلوكه والانقياد له وأمر بتكراره في الصلوات، وقد يأتي أيضًا مذكرًا في كثيرٍ من الآيات لكنه يأتي مذكرًا ثم مضافًا بالمعرفة. ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ - مذكر - ﴿مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام:161]، وُصف الصراط هنا بأوصاف، وصفه بأوصاف، وتتبَّعْ لفظة الصراط في القرآن واقرأ ما قاله المفسرون عليها لتزداد بذلك علمًا إلى علم ﴿اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم﴾ "صراط الذين أنعمت عليهم" لم يأت تعريف أو بيان لمن هم الذين أنعم الله عليهم وإنما يأتي في آية أخرى، من يذكرها لنا؟
{سورة النساء}
تفسير آيات الأذكار
الحمد للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على النبيِّ الأمين وعلى آله وأصحابه ومن تبَعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا علمَ لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم زدنا علمًا وهدًى وتُقى، واجعلنا يا ربنا ممن إذا أُعطيَ شكر وإذا ابتُلي صبر وإذا أذنب استغفر.
وقبل البداية في القراءة في المذكِّرة نأتي بمقدمةٍ يسيرة؛ لتكون مدخلًا للموضوع، وكما علمتم الآن أن الدرس هو في آياتِ الأذكار التي جاءت في القرآن الكريم، ومن المعلوم أن الأذكارَ على ضربين:
أذكارٌ مقيَّدة.
وأذكار مُطلَقة.
فالأذكارُ المقيَّدة مثل أذكار الصباح وأذكار المساء والأذكار العارضة وأذكار الصلوات، فهذه أذكار مقيدة، منها ما جاء في القرآن الكريم، ومنها ما جاء في السُّنة النبوية.
والضرب الثاني: هي الأذكار المطلَقة، والتي ينبغي للمسلم أيضًا أن يحافظ عليها في كل الأحوال؛ لأن الذِّكر هو غذاء القلوب سواء كان ذِكرًا مقيدًا أو ذِكرًا مطلقًا، والله سبحانه وتعالى قد أمر بالذِّكر وأحبَّ من عباده أن يذكروه، ولم يأتِ الأمر بالذِّكر في القرآن الكريم إلا على وجه الكثرة، وهذا في آياتٍ متعددة، طبقها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في ذلك، كما أخبر الله تعالى عن موسى عليه السلام في سورة ﴿طه﴾ قال: ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا﴾ [طه:33-35].
وجاء أيضًا عن زكريا عليه السلام في هذا ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا﴾ [آل عمران:41]، جاء فيه كثرة الذِّكر، وجعلَ الله تعالى من صفات أهل الإيمان: أنهم يُكثرون من الذِّكر في كل الأحوال، قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ [الشعراء:227].
وجاء في سورة الأحزاب أيضًا ثلاثة مواضع فيها بيان كثرة الذِّكر، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب:21]. ولما عدَّد الله تعالى صفات المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات قال: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾[الأحزاب:35]، وبَين ما أعده الله تعالى لهم من الأجر والثواب، وقال بعدها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب:41- 42]. وفي السُّنة النبوية أحاديث كثيرة تحثُّ على ملازمة الذِّكر والمداومة عليه، ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: «إن شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ؟ قال: لا يزال لسانك رطبًا من ذِكر الله».
ومَثَّل عليه الصلاة والسلام بالقلبِ الذي يذكر الله والذي لا يذكُر الله مثل البيت الخَرِب، والذِّكر هو عبادةٌ يسيرة لا تحتاج إلى استقبال قبلة، ولا إلى طهارة، ولا إلى مكان، هذا مطلق في كل الأحوال، وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين بذلك، فقال: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[آل عمران:191] الآية – في كل الأحوال قائمًا، ماشيًا، جالسًا، مضطجعًا يُكثر من ذِكر الله؛ لأنه إذا أكثر من ذِكر الله ذكره الله تعالى، قال سبحانه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾[البقرة:152].
وقال الله تعالى في الحديث القدسي: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منه».
الذِّكر عبادةٌ عظيمة، غفَل عنها كثيرٌ من الناس وهجروها؛ ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما كما عند ابن المنذر والترمذي: "لا يفرض الله على عباده فريضةً إلا جعل لها حدًّا معلومًا ثم عذر أهلها في حال العُذر غير الذِّكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا معلومًا ينتهي إليه، ولا يتركه إلا إنسان مغلوبٌ على عقله، لا يذكر الله".
لأن الذكر هو السلاح القوي في طرد الشيطان وإبعاده عن الإنسان، المسلم يُهلك الشيطان ويحرقه بالذِّكر؛ ولهذا قال الله تعالى عن أولئك الذين أعرضوا عن الذِّكر ماذا كان لهم؟ ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[المجادلة: 19]. أنساهم الذِّكر، وهو يصدُّ عن الذِّكر وعن الطاعة، وفي آية المائدة: ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ -الشيطان- ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ﴾ [المائدة: 91]، فمحاربة الشيطان وهو العدو اللدود للإنسان تكون بالذِّكر.
لهذا يقول ابن القيم رحمه الله: "من لم يُعذِّب شيطانه بالذِّكر والاستغفار في الدنيا عذَّبه الشيطان يوم القيامة".
وما ضُرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من أن يُنسيَه الله تعالى الذِّكرَ، وما يقع للناس الآن من اضطرابٍ وقلقٍ وأمراض نفسية كلها بسبب البعد عن الذِّكر، فلو لازموا الذِّكر لاطمأنت قلوبهم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد: 28].
نعم، هذه مقدمة يسيرة حتى نعرف فضل الذِّكر ومكانته عند الله، والذي معنا هو بعض الآيات المتعلقة بالذِّكر المقيَّد في الصلاة، وفي الصباح، وفي المساء، وهي اختياراتٌ موفَّقة من كتاب الله جل وعلا، فعلى بركة الله تعالى نبدأ.
{بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين ولجميع المسلمين.
(سورة: الفاتحة.
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 1-7].
﴿بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ﴾ أي: أبتدئ بكل اسمٍ لله تعالى؛ لأن لفظ اسم مفرد مضاف، فيعم جميع الأسماء الحسنى، ﴿اللَّهِ﴾ هو المألوهُ المعبود، المستحقُّ لإفراده بالعبادة؛ لما اتصَف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال. ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسِعت كلَّ شيءٍ، وعمَّت كلَّ حيٍّ، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلَقة، ومن عدَاهم لهُم نصيب منها.
واعلم أن من القواعد المتفقِ عليها بين سلف الأمة وأئمتها: الإيمانَ بأسماء الله وصفاته، وأحكامِ الصفات.
فيؤمنون مثلًا بأن الله رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم. فالنِّعم كلها أثر من آثار رحمته، وهكذا في سائر الأسماء. يُقال في العليم: إنه عليم ذو علمٍ، يعلم به كل شيء، قدير ذو قدرة يقدر على كل شيء)}.
نعم هذا هو كلام الشيخ عبد الرحمن السَّعدي في التفسير، وهو بيانٌ إجماليٌّ لمعنى البسملة وما فيها من الألفاظ الجليلة، وسيكون المنهج إن شاء الله تعالى في البيان في هذا أننا نتطرق إلى تحليل الألفاظ في هذه الآيات؛ حتى يتبين لنا المراد من ذلك، فهنا قال الشيخ في ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ جاء بالتقدير، الباء هنا في ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ الباء متعلقة بفعلٍ مُقدَّرٍ محذوف والشيخ هنا قدَّره بفعلٍ مقدرٍ محذوف، وهذا التقدير يكون متأخرًا وليس متقدمًا، ما يقول: "أبتدئ بسم الله" يؤخره؛ لأنه لا يتقدم على اسم الله فيقول: "بسم الله أبتدئ" أو "أبتدئ بسم الله"، الشيخ قال هنا: "أبتدئ بكل اسم لله تعالى" فنقول هنا: يكون متأخرًا؛ وذلك لإفادة الحصر والقصر كما ذكر ابن القيم، ولتعظيم اسم الله جل وعلا؛ لأنه لا يَصلُح أن يتقدم عليه شيءٌ في هذا في الذِّكر، ثم بَين هنا أن الاسم هنا مفرد مضاف كما سيأتي فيعم جميع أسماء الله الحسنى؛ لأن أسماء الله الحسنى هي مشتقةٌ من هذا الاسم العظيم، والذي قال فيه بعض أهل العلم: إنه اسم الله الأعظم؛ فلذلك تجد أنه إذا ذُكر هذا الاسم العظيم جاءت بعده الأسماء الأخرى، قال الله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الحشر: 22]، وقال: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾[الحشر: 23]. فبدأ باسم: ﴿ اللَّهُ ﴾ كما قال هنا: "فيعم جميع الأسماء الحسنى"، وقال أيضًا قال الله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الإسراء: 110] فبدأ باسم الله الأعظم الذي هو ﴿ اللَّهُ ﴾، وتكلم على هذا الاسم الجليل: ﴿ اللَّهُ ﴾، وهو المألوه المعبود المستحقُّ للإفراد بالعبادة، هل هذا الاسم الكريم الجليل هل هو اسمٌ مرتجلٌ أو مُشتق؟
والصحيح كما قال ابن القيم رحمه الله: أن هذا الاسم الجليل مشتقٌّ وأن أصله الإله أصله الإله، فحُذفت الألف التي بين اللامين وأُدغمت اللام الأولى في اللام الثانية فصارت ﴿اللَّهُ﴾ مشدَّدة ﴿اللَّهُ﴾، وإلا أصله [الإله]، وهذا الاشتقاق هو قول كثيرٍ من النحاة ومنهم سيبويه وجمهور أصحابه، إذًا حُذفت الهمزة الأولى وأُدغمت اللام الأولى في الثانية وشُددت فصارت ﴿اللَّهُ﴾.
وهذا الاسم الكريم كما قال الشيخ: "هو الاسم الجامع لكل أسماء الله الحسنى والصفات العُلى، وإذا قلنا بالاشتقاق أنه مشتقٌّ على الصحيح مشتقٌّ من الإله؟ فلأنه دلَّ على صفة الإلوهية لله جل وعلا، كسائر الصفات الأخرى: صفة العليم، السميع، القدير، البصير مشتقٌّ من السمع، من البصر، وهكذا.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا من المنهج الذي سأذكره في بعض الكلمات نقلًا عن الصحابة والتابعين أو بدونِ تسمية لهم وإنما نقلًا قال ابن عباس: هو الذي يألهُه كل شيءٍ ويعبدُه كل خَلقٍ.
وقال في رواية أخرى: والله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
وهذا الاشتقاق [الإله] له أصلٌ في لغةِ العرب، في بيت رُؤبةَ يقول:
لله درُّ الغانياتِ المُدَّهِ *** سبَّحْن واسترجعْن من تألُّهي
أي: من عبادتي. سبَّحن واسترجعن من تألهي أي: من تعبُّدي وطلبي لذلك.
وهذا الاسم العظيم الذي هو ﴿الله﴾ له خصائص لفظية ومعنوية، أشار إليها ابن القيم ولكن لم أقف على هذا الكلام في أحدِ كتبه، وإنما ذُكر في مقدمةِ: "شرح كتاب التوحيد" نقلًا عمن حقق الكتاب قال: لهذا الاسم العظيم خصائص لفظية وخصائص معنوية، وسرد شيئًا منها.
ومن خصائصه أيضًا: أنه اسمٌ مختصٌّ بالله جل وعلا لا يشاركه فيه غيره فلم يُعرَف في الجاهلية أحدٌ تسمَّى بهذا الاسم، وقيل: إنه هو الاسم الأعظم ﴿الله﴾ هو الاسم الأعظم؛ ولذلك لا يُثنَّى ولا يُجمع هذا الاسم العظيم، وبقية أسماء الله الحسنى تابعةٌ لهذا الاسم وأوصافًا له أو مضافةً إليه، كما أشار الشيخ، فجميع أسماء الله الحسنى تابعةٌ لهذا الاسم العظيم الجليل.
وقال في معنى: ﴿الرحمن الرحيم﴾ إنهما اسمان دالاَّن على الرحمة الواسعة من الله، ﴿الرحمن﴾ هو الاسم الثاني من أسماء الله بنص الآية ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾[الإسراء: 110].
وكلمة: ﴿الرحمن﴾ على وزن [فعْلان]، وإذا قلنا على وزن [فَعلان] فمعناها أنها من صيغ المبالغة؛ لأن صيغة المبالغة تدل على الامتلاء، فتقول مثلًا: عطشان أي أنه مشتدٌّ عليه العطش، غضبان كذلك على وزن فعلان، فكلمة: ﴿الرحمن﴾ على وزن [فَعْلان] تدل على السِّعة كما قال الشيخ هنا: "ذو الرحمة الواسعة" تدل على سعة رحمة الله، كما قال سبحانه: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾[الأعراف: 156].
فإذا قيل مثلًا: رجلٌ: غضبان، ندمان، شبعان دلَّ على الامتلاء هنا، فهو سبحانه ذو الرحمة الواسعة في هذا، و ﴿الرحيم﴾ أخص وهو على وزن [فَعِيل] الرحيم على وزن فعيل، وكلٌّ منهما صفة مشبَّهة لكن فعلان أبلغ من فعيل؛ ولذلك جاء هو الاسم الثاني من أسماء الله جل وعلا، قال: ﴿الرحمن الرحيم﴾ فهما اسمان عظيمان مشتقان من الرحمة، والرحمة هي صفةٌ من صفات الله جل وعلا ثابتةٌ له، ولهذه الصفة وغيرها من الصفات آثار عظيمة، ماذا ينشأ عن هذه الصفة؟ ما نقول: إن الرحمة هي بمعنى إرادة الإحسان، هذا تأويلٌ لا يصح صرفُه عن معناه، وهذا تأويل أهل التعطيل. نقول: إن الرحمة صفةٌ ثابتةٌ لله جل وعلا ثبوتًا حقيقيًّا تليق بجلاله وعظيم سلطانه نؤمن بها ولا نؤولها، ولكنه ينشأ عن هذه الرحمة شيء ينشأ عنها الإحسان للخلق، أو أنه يحصل منها الخير للعبد؛ ولذلك جاء في آية في سورة ﴿الروم﴾ قال سبحانه: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾[الروم: 50]، المطر إذا نزل على الأرض وأنبتت أثرٌ من آثار رحمة الله شيء نشأ من آثار هذه الرحمة، ما نقول: إنها الإحسان، نقول: هذا نشأ من رحمة الله وأثر، الله سماه "أثر" ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾[الروم: 50].
إذًا هو أثر ما يحصل للعباد من الخير والإحسان والخير والعطف والرزق، هذه آثار رحمة الله على العباد، من آثارها، أما الذين يقولون: إننا أثبتنا الرحمة لله جل وعلا فقد شبهناه بالخلق وهذا قول باطل لا يصح، فنحن نؤمن بالصفة ولا نعلم الكيفية نؤمن بهذه الصفة ونعلم أن لها آثارًا؛ ولهذا ينبغي أن يظهر على الإنسان آثار أسماء الله الحسنى وصفاته لها آثار، كل أسماء الله الحسنى وصفاته لها آثار، وإذا اجتمع ﴿الرحمن الرحيم﴾ كما في هذه البسملة؛ البسملة اجتمع فيها ﴿الرحمن الرحيم﴾؟ فنقول: ﴿الرحمن﴾ دالٌّ على إثبات صفة الرحمة لله تعالى، الرحمة الذاتية، الصفة الذاتية القائمة به سبحانه وتعالى، ودلت كلمة: ﴿الرحيم﴾ على إثبات صفة الرحمة الفعلية له سبحانه؛ لأن صفة الرحمة الفعلية متعلقة بالمرحوم ولكن صفة الرحمن صفة قائمةٌ به جل وعلا.
يقول الله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾[الأحزاب:43] "رحيم" ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ يعني متعلقة ﴿الرحيم﴾ متعلق بالمخلوق، فهو سبحانه وتعالى فاعل الرحمة، وهو سبحانه وتعالى موصِل الرحمة لمن شاء من خلقه، قال سبحانه وتعالى: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ [الإسراء: 54]، وقال سبحانه: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [العنكبوت:21].
إذًا ﴿الرحمن﴾ صفةٌ متعلقةٌ به سبحانه وتعالى، وأما ﴿الرحيم﴾ رحمةٌ من الله صفةٌ له متعلقةٌ بالمخلوق في هذا، والرحمة عامةٌ وخاصة؛ فأما الرحمة العامة فهي لجميع الخلق كلهم من يعقِل ومن لا يعقِل يرحمهم الله تعالى بذلك؛ لأنه لو لم يرحمهم لما عرفوا أن يأكلوا ولا يشربوا ولا يناموا، فهذه رحمة عامة، ورحمة خاصة بأهل الإيمان، ولولا رحمة الله تعالى بنا لما استطعنا أن نمشي وأن نسير وأن نركب وأن ننزل وأن ننام وأن نسافر ونحو ذلك، كل ذلك من رحمة الله جل وعلا بعباده، والله تعالى لم يُنزل على عباده إلا رحمةً واحدة، واستودع تسعًا وتسعين رحمة ليوم القيامة، وهذه الرحمة التي أنزلها الله تعالى بها يتراحم الخلق فيما بينهم.
إذًا نقول: ﴿الرحمن﴾ ذو الرحمة الواسعة صفةٌ من صفاته، و ﴿الرحيم﴾ ذو الرحمة الواصلة للفعل.
الأولى صفةٌ، والثانية بالفعل.
إذا ورد واحد منهما في بعض الآيات يأتي ﴿الرحمن﴾ وحدَه، وفي آية يأتي ﴿الرحيم﴾ وحدَه، في الفاتحة هنا، وفي البسملة اجتمع ﴿الرحمن﴾ و ﴿الرحيم﴾ كما في قوله تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾[البقرة: 163] اجتمعا، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ﴾ - ما فيه إلا كلمة: ﴿الرحمن﴾ - ﴿قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾[الفرقان: 60]. ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ [الإسراء:110] انفرد ما فيها ﴿الرَّحِيمُ﴾، والرحيم ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾[الأحزاب: 43].
إذا ورد كل اسمٌ لوحده فإنه يشمل الوصفَ والفعلَ، وإذا اجتمعا؛ فالرحمن الوصفُ والرحيم الفِعلُ.
إذًا لفظ: "رحمن" على وزن "فَعْلان" تفيد الدلالة على الحدوث والتجدد والاستمرار، وتفيد أيضًا الامتلاء بالوصف ...
وخلاصة الكلام في ﴿الرَّحْمَنُ﴾: أن هذا اللفظ على وزن "فعلان" يدل على الامتلاء، وعلى سِعة رحمة الله جل وعلا في ذلك، وأما كلمة: ﴿الرَّحِيمُ﴾ فهي على وزن "فعيل" تدل على الثبوت في الصفة. مثل أن نقول: "فلان قصير" ثابتة له، "فلان طويل"، "فلان جميل" هذا شيء ثابت، ولله المثل الأعلى فجاء هنا بالوصفين، وهذا هو أحسن الجمع بين الوصفين حينئذٍ إذا تكلمنا على كلمة: ﴿الرَّحِيمُ﴾ و ﴿الرَّحِيمُ﴾ في هذا.
بقي مسألة في (الفاتحة) هنا في البسملة لم يتكلم الشيخ عليها؛ لأنه لم يتوسع في المسألة هذه في قضية هل هي آية أم ليست آية؟ هل البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة؟
هناك خلاف بين أهل العلم في هذا:
قيل: إنها آية من أول الفاتحة، قيل إن البسملة آيةٌ من أول الفاتحة، وهو قولٌ للشافعي.
وقيل: إنها آيةٌ من كل سورة سوى سورة (براءَة).
والقول الثالث وهو الصحيح: أنها آيةٌ مستقلة وليست من السور؛ لا من الفاتحة ولا من غيرها، أنها آيةٌ مستقلةٌ نزلت للفصل بين السور وليست بآية، وإن كان موجود في المصحف لها رقم خرج من الخلاف، وإلا هي سبع آيات بدون الفاتحة بدون البسملة، والدليل على ذلك: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾[الحجر: 87]. ﴿سبعًا من المثاني﴾.
وفي حديث أبي هريرة المُخرَّج في صحيح مسلم: «قسَمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» في الحديث القدسي لم يذكر فيه البسملة، فإذا قال العبد: «الحمدُ لله، قال: حمدني عبدي» ﴿الحمد لله رب العالمين﴾، «وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالكِ يوم الدين، قال: مجَّدني عبدي».
وبَين أن له ثلاثًا ولعبده ثلاثًا ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ هذه آية، ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾ آية، ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ فتكون ثلاث آيات، ثم أربع آيات فيها؛ لأن ما بعد الآيات الثلاث يقول: «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل». فهي آيةٌ مستقلة نزلت ليست من السور وإنما هي للفصل بين السور، ولا خلاف بين أهل العلم أن البسملة جزءٌ من آية في سورة النمل ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: 30] جزءٌ من آية، هذا باتفاق، وهناك أدلة لكل قولٍ من هذه الأقوال وليس هذا موضع بسطها، والشيخ هنا لم يتكلم على أسماء ﴿الفاتحة﴾ ولا فضلها، وسورة ﴿الفاتحة﴾ لها أسماء متعددة، من هذه الأسماء أنها سورة ﴿الفاتحة﴾، ومن أسمائها أيضًا: لأنه جاء في الحديث: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، ومن أسمائها: أنها أم القرآن، وأم القرآن هي "السبع المثاني".
وقد جاء في الحديث عند مسلم: «من صلى صلاةً لم يقرأ فيها بأم القرآن».
وتُسمى: "أم الكتاب"، ورُويَ هذا في حديث لأبي قتادة عند البخاري: «كان يقرأ الظهر في الأوليين بأمِّ الكتاب»، فسماها: "أم الكتاب"، وتسمَّى أيضًا بـ : "الحمد لله رب العالمين"، وهذا ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد بن المُعَلَّى، لما أخبره النبي عليه الصلاة والسلام بأعظم سورة في القرآن قبل أن يخرج من المسجد قال: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ فأُخذ من هذا أنه اسم للسورة، ومن أسمائها أيضًا: "السبع المثاني" كما في آية الحِجر ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾ [الحجر: 87].
وهذا يدلك على أن الفاتحة هي سبع آيات، هذا باتفاق القرَّاء سبع آيات لهذه الآية، وأما وصفها بالمثاني؛ فلأنها تُثنَّى في الصلاة في كل ركعة يقرأها المسلم، وهناك أسماء أُخرى كثيرة لهذه السورة الكريمة منها: "القرآن العظيم، والشافية، والكافية، والراقية، والصلاة، والدعاء، والسؤال، والشكر، والكنز".
ذكرها أبو حيان في تفسيره والقرطبي والسيوطي.
وأما فضل هذه السورة فهو كما تقدم في حديث أبي سعيد بن المعلَّى في صحيح مسلم، لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لأعلمنَّك سورةً هي أعظم سورةٍ في القرآن الكريم قبل أن تخرج من المسجد» - فتلا عليه أول هذه السورة – ﴿الحمد لله رب العالمين﴾.
وجاء في صحيح مسلم أيضًا: أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أبشر بنورين لم يؤتهما نبيٌّ قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَه».
وهناك أيضًا أحاديث أُخر تدل على فضل هذه السورة، منها ما جاء عند الترمذي: "ما أنزل الله تعالى في التوراة والإنجيل مثل أم القرآن"، "وحديث قصة اللَّديغ لأبي سعيد الخدري"، "وحديث أبي هريرة المتقدم «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» كل هذا يدل على فضل سورة الفاتحة وأنها عظيمة؛ لأن سورة الفاتحة جمعت كلَّ ما في القرآن الكريم، خلاصة ما في القرآن الكريم هو في سورة الفاتحة، وخلاصة ما في القرآن الكريم وفي سورة الفاتحة هو في قوله تعالى: ﴿إياك نعبدُ وإياك نستعين﴾، كما قرر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى، وعدد آياتها سبع كما جاء في الآية.
قالوا: "وهذا إجماعٌ بين أهل العلم" حكاه جمعٌ من أهل العلم كالنَّحاس والدَّاني والواحدي وابن عطية والشَّاطبي وابن الجوْزي والسخاوي وابن تيمية وابن كثير" ذكروا أنها سبع آيات، وإذا كُتبت في المصحف فهذا لا يعني أنها آية ضمن الفاتحة، لو تفتح المصحف تجد أنه مكتوب رقم على البسملة، ومكان نزولها: أنها مكية، ومنهم من قال: إنها مدنية، وهو لا يصح، وقالوا: إن للفاتحة نُزلين أو تنزُّلين، ولكن الصحيح: أنها مكية؛ لأن الآية التي جاء فيها ذِكر الفاتحة مكية، سورة الحجر مكية ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾[الحجر: 87] مكية باتفاق، ولأن الصلاة فُرضت في مكة في السَّنة الثانية فكيف يُصلُّون بدون فاتحة؟!
فهذا مما يدلك على صحة القول بأنها مكية، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفاتحة الكتاب نزلت بمكة لا ريب"، وقول من قال: الفاتحة لم تنزل إلا بالمدينة غلطٌ، بلا ريب أنها مكية، ولكن نقول: الآيات بعضها تنزل مرتين وهذا لا يمنع من نزول الآية مرتين، وربما أن يكون الله أعلم أن سورة ﴿الفاتحة﴾ نزلت مرتين، ولكن لم أقف على هذا في شيء.
هذا ما يتعلق بالبسملة وبعددِ آيات الفاتحة وفضلها. نعم.
﴿قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [هو] الثَّناء على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، فله الحمد الكامل بجميع الوجوه. ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الربُّ": هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم النِّعم العظيمة، التي لو فقدوها لم يمكن لهم البقاء، فما بهم من نعمة فمنه تعالى.
وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامةٌ وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا، والخاصة: تربيته لأوليائه فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصَّوارف والعوائق الحائلةَ بينهم وبينه، وحقيقتُها: تربية التوفيق لكل خير، والعِصمة عن كل شر.
ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ: الرب". فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.
فدل قوله ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ على انفراده بالخَلق والتدبير، والنِّعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار﴾.
شرع الآن في بيان معنى: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ وهي الآية الأولى في هذه السورة الكريمة، قال في تعريف الحمد: "الثناء على الله بصفات الكمال" وهو تعريفٌ صحيح، لكن يحتاج إلى إضافة، قيل في تعريف الحمد: أنه الثناء الكامل، وقيل في تعريف الحمد أيضًا: إنه الوصف الجميلُ على الجميلِ الاختياري، لكن الصحيح ما ذكره الشيخ مع إضافةٍ، فنقول: "هو وصف المحمود بصفات الكمال" أو "الثناء على الله تعالى بصفات الكمال محبةً وتعظيمها"، فإضافة المحبة والتعظيم أساس في التعريف – "هو الثَّناء على الله تعالى بصفات الكمال محبةً وتعظيمًا"؛ لأنه لو أخبر إنسان عن محاسن غيره قد لا يكون بمحبةٍ ولا تعظيم له، يذكر محاسنه مثلًا خوفًا منه في هذا، أو طلبًا لشيءٍ، لكنه قد لا يُعظِّمه ولا يُجله في هذا، لكن مع المحبة والتعظيم كما سيأتي في تفسير العبادة، فالله سبحانه وتعالى كامل في ذاته وصفاته وأفعاله بهذا الحمد، فلابد من القيد من المحبة والتعظيم وهذه أشار إليها الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، قال: "لأن مجرد الوصف بالكمال بلا محبةٍ ولا تعظيم لا يكفي"، لا يؤدي المقصود؛ لأنه سيتحول إلى مدحٍ، وفرقٌ بين المدح والحمد، وهذا أيضًا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية.
هذه الكلمة الكريمة: ﴿الحمدُ للهِ﴾ تحتها إثباتُ كل كمالٍ للربِّ: فعلًا ووصفًا واسمًا، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن كل عيبٍ: وصفًا وفعلًا واسمًا؛ لأن أفعاله كلها رحمةٌ وفضلٌ وخيرٌ ومصلحةٌ وعدلٌ، وأوصافه كلُّها أيضًا أوصافُ كمال ونعوتُ جلالٍ، وأسماؤه كلها حسنى، وهذا كله جاء في القرآن الكريم وفي السُّنة النبوية، والله تعالى قد أثنى على نفسه وحمِدَه قبل أن يحمده خلقه سبحانه، فابتدأ كتابه بالحمد، وابتدأ خلقه بالحمد، فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ [الأنعام: 1]، وختم خلقه بالحمد ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر: 75]، وجعل كلام أهل الجنة في الجنة "الحمد" ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾ [الأعراف: 43].
أشار إلى هذا ابن كثير في الفاتحة، فهو سبحانه وتعالى قد حمِد نفسه قبل أن يحمده خلقُه، وحمِده رُسله وملائكتُه والمؤمنون من عباده، ومَن تأمَّل الآيات القرآنية وجد ذلك، فالله جل وعلا قد حمِد نفسه وحمده ملائكته ﴿والمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِهِ﴾، ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: 59]، وحمده أنبياؤه ورُسلُه، وحمِده الصالحون من عباده، ولن يقوموا بالوفاء بحقِّه جل وعلا مع ذلك، وإذا تأملت في صفات الله جل وعلا عند كلمة: "الحمد" فإنها تأتي في الثَّناء على الله، وتأتي في انتفاء اتخاذ الولد عن الله جل وعلا، وانتفاء الشَّريك، وانتفاء الوليِّ، ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾[الإسراء: 111].
لكن بدأها بالحمد؛ ولذلك الكلام عند كلمة: "الحمد" فيه وقفاتٌ طويلة، فيه الآن رسالة ماجستير كاملة "الحمد في القرآن والسُّنة" رسالة دراسة وافية في جامعة أم القرى، لمَّا أراد الله تعالى أن يُشنِّع على أولئك الذين ينسبون لله الولد أتى ربُّنا بثلاثٍ سورٍ متوالية فيها نفي اتخاذ الولد عن الله بدءًا من سورة الإسراء: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾[الإسراء: 111]، وثنَّى بذلك في أول سورة الكهف مباشرة: ﴿وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوْا اتَّخَذَ اَللهُ وَلَدًا﴾ [الكهف: 4]، وفي آخرها، آخر سورة الكهف نفى الشريك عن الله، وفي سورة ﴿مريم﴾ الثالثة: نفى اتخاذ الولد عنه ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ﴾ [مريم:34-35]، وفي سورة الفرقان﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا﴾ [الفرقان: 2] سبحانه، بعد هذا السياق جاءت القوارع على أولئك المشركين والصواعقُ اللفظية التي تهزُّ السماء والأرض، في آخر سورة مريم: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ [مريم: 89- 92].
آياتٌ عظيمة ينبغي للمسلم أن يتأملَ فيها ويقفَ عندها ولا يقرأها هكذا، لابد أن يتدبر ويتأمل ويعرف عظمة الله جل وعلا في هذا.
هذا هو بيانٌ على وجه الاختصار للحمدِ: الثناءُ الكاملُ لله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله محبةً وتعظيمًا.
إذًا لو قيل: ما الفرقُ بين الحمدِ والشكر؟
هنا كلام لأهل العلم فيهما: الطبري رحمه الله تعالى لم يُفرق فهو كقول العبد: الحمد لله شكرًا، ومن تأمل أيضًا وجد أن هناك فرقًا بين الحمد والشكر، وقد ساقها ابن كثير في التفسير بدون أن نُفصِّل في هذا، وتعقَّب ابن َكثير ابنُ عطية في هذا، وقال: إن قوله هذا غير مرضيٍّ - في معنى أن الحمد هو بمعنى الشكر- ، والصحيح أن بينهما فرقٌ في ذلك يُرجع إليه في كتاب ابن عطية، وفي كتاب: "التفسير لابن كثير"، حتى لا نُطيل فلو أطلنا لطال بنا المقام في هذا.
السؤال هنا ممكن نطرح بعض الأسرار التي في الآية: ما وجهُ الابتداء بالحمد هنا ولم يبتدئ بغير الحمد، لم يقل: الشكر لله رب العالمين، قال: الحمد لله رب العالمين؟
لأن أعظم الأمور التي يُعظَّم بها الرب جل وعلا هي الحمد، ولأنه يفيد أنه سبحانه وتعالى مستحقٌّ للثناء والكمال والتعظيم والإجلال فابتُدئ بالحمد، ولهذا ما قال: حمدًا لله رب العالمين، جاء باللام: ﴿الحمد لله﴾ التي تفيد الاستغراق والشمول والاستقصاء لكل معالم الحمد له سبحانه، واللام هنا هي لام الاستغراق. ورُب قائلٍ يقول: تقدَّم لفظ الجلالة على الحمد، هنا لم يقل: لله الحمد رب العالمين بدايةً، لله الحمد رب العالمين جاء بالحمد فقدمه على الاسم العظيم، قد تقول: جاء في آخر سورة ﴿الجاثية﴾: ﴿فلِلَّهِ الحَمْدُ﴾ تقرأ في سورة الجاثية: ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الجاثية:36]، فما وجه تقديم تأخير الحمد هنا ﴿فلله الحمد﴾؟
﴿الحمد لله﴾: هنا جملة خبرية التي في بداية الفاتحة، فيها معنى الأمر، فهو سبحانه وتعالى يُخبر عن نفسه بأنه متصفٌ بالحمد، ويأمر عباده أن يحمدوه، ولم يتقدم هذه الآية شيء قال: ﴿الحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، ما قبلها آية فهي ابتداءٌ، أما سورة الجاثية فقبلها آيات، وما هي هذه الآيات التي قبلها؟ كلها في الردِّ على المشركين الذين يعبدون مع الله غيرَه؛ في أولها وفي وسطها وفي آخرها كله تشنيع على المشركين وعلى آلهتهم وعباداتهم إلى أن قال الله لنبيه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾[الجاثية:18] - وهم المشركون - ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [الجاثية: 19].
وقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ﴾ [الجاثية: 25]، إلى آخر الآية.
﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا﴾[الجاثية: 24]، ما يظنون بالبعث، إذًا قدم الاسم العظيم ﴿الله﴾ الذي يدل على الألوهية كما تقدم بأن فيه ردٌّ عليهم، ردٌّ على هؤلاء المشركين بأنكم مطلوب منكم أن تعبدوا الله حق عبادته؛ لأنه الإله المعبود بحق سبحانه وتعالى، فناسب أن يبدأ بـ ﴿الله﴾ قبل كلمة: ﴿الحمد﴾، فكلمة: ﴿الَحمْدُ لِله﴾ هنا جملة خبرية فيها معنى الأمر، وهي أيضًا جملة اسمية تدل على الاستمرار والثبات والدوام والتجدُّد للإنسان.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: الحمدُ نوعان: حمدُ الله على إحسانه وهو من الشكر، وحمدٌ لله على ما يستحقُّه بنفسه من نعوتِ كماله.
فأنت تحمد الله على أمرين:
الحمد من أجل أنك تشكره على إنعامه عليك.
وتحمده على أنه مستحقٌّ لصفاتِ الكمال والجلال سبحانه وتعالى.
ولهذا قُرئت القراءات المتواترة في ﴿الحَمْدُ لله﴾ بالرفع ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ بالرفع وهي المتواترة على الابتداء، وما بعده خبر، وقُرئ شاذًّا بكسر الدال ﴿الحمدِ لِله﴾ إتباعًا لكسرة اللام في ﴿لله﴾ بالإتباع، وقُرئ بنصب الدال على المصدر أيضًا ﴿الحمدَ لله﴾ وكلها شاذة، لكنَّ قراءةَ الرفع: ﴿الحمدُ لله﴾ أبلغُ وأمكنُ في هذه الحال.
ثم قال هنا الشيخ ذكر: ﴿ربِّ العَالَمِينَ﴾ وأن الربَّ هو المربي لجميع العالمين لجميع خلقه رباهم؛ لأن كلمة: "الرب" أصلها مأخوذ من التربية للشيء وتهيئته وتبليغه وإصلاحه، قال تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾[النساء:23]، والمعنى: أي اللواتي توليتم تربيتهن، وكلمة: "الرب" في اللغة لها إطلاقات، من إطلاقاتها: السيد المالك، أو السيد المُطاعُ، والمعبود حتى ولو كان بغير حقٍّ يُسمى: أرباب" ، ولهذا الله تعالى يقول: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[التوبة: 31]. ﴿أربابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ سماهم.
وفي سورة ﴿يوسف﴾ مثل هذا اللفظ أيضًا، وذلك الذي كان يعبد حجرًا كما جاء في بعض الأبيات الشعرية، كان يعبد حجرًا، فلما خرج ثعلبانٌ وبال على هذا الحجر تعجب منه!، وقال: "كيف أعبدُ الحجر؟!
أربٌّ يبولُ الثُّعلبان برأسهِ *** لقدْ هانَ مَن بالتْ عليه الثَّعالبُ
فليس هذا بربٍّ، فالربُّ المعبود بحق: هو الله جل وعلا.
ومن إطلاقاته أيضًا: القائم بالأمور المُصلح للشيء ومُدبره.
ولهذا جاء في بعض الأحاديث عند البخاري ومسلم في أصل هذا الحديث، يعني أصل كلمة: "الرب" أصلها، قال لصاحبه قال له: هل لك من نعمةٍ تربُّها عليه؟ أي: أنه أصلح لك أمرًا جميلًا، تربُّها: هو إصلاح الشيء، كلمة لفظة: "الرب" لا تُطلق على غير الله إلا بالإضافة، كما قال تعالى: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾[يوسف: 42] بالإضافة، أما إذا عُرِّفت فهي لا تُطلق إلا على الله جل وعلا "الرب" إذا عُرف بأل فلا يُطلق إلا على الله جل وعلا، أما بالإضافة فيُطلق عليه وعلى غيره، قال تعالى: ﴿أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾[يوسف:41]، وقال: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾[يوسف:50] فأضاف هنا، أضافها إلى الضمير، هذا هو معنى الربوبية.
وذكر هنا معنى: ﴿العَالمينَ﴾؟ العالمين جمع عالَم بفتح اللام، جمع عالم، لا واحد له من لفظه، هناك ألفاظ لا واحد لها من لفظها، مثل: "قوم" لا واحد لها من لفظها، هناك "نساء" لا واحد لها من لفظها، وهناك كلمة: "لحم" قد يُسمى: "لحمة" صحيح، لكن هذا جمع الجموع: "لحوم"، وهنا في كلمة: ﴿العالمين﴾ يُطلق إطلاقات، على من يُطلق؟ أوردها القرطبي في تفسيره، فقال: إنه يُطلق على كل موجودٍ سوى الله، ويُطلق على أهل كل زمان، ويُطلق على الجن والإنس، ويُطلق على كل مَن يعقِل، فإذا قلنا: إنه يطلق على أهل كل زمان مثلما قال الله تعالى: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾[الجاثية: 16] أي بني إسرائيل؛ يعني عالَم زمانهم ما هو على الناس كلهم ومن بعدهم لا عالم زمانهم.
وإذا قال الله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾[الفرقان: 1].
وهنا المقصود به المُكلَّف من الجن والإنس صحيح، ولكن الصحيح: أنه كل من سوى الله فهو عالم: عالم الملائكة، عالم الجن، عالم الإنس، عالم الحيوانات، عالم الدواب، عالم ما في البحار، ما في الأرض، ما في السماء، ولهذا لما سأل فرعون موسى قال: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ﴾[الشعراء:23-24].
هذا هو الصحيح.
إذًا ما المراد بالعالمين؟ نقول: هم كل من سِوى الله فهو عالم بدلالة هذه الآية التي في سورة ﴿الشعراء﴾؛ لأنه إطلاقٌ شاملٌ لكل مخلوقٌ موجود، وهذا هو الصحيح الذي ينبغي أن يقال فيها.
وقال هنا: "فدل قول رب العالمين على انفراده بالخلق والتدبير".
ولم يذكر كلمة: ﴿الرحمن الرحيم﴾؛ لأنها تقدمت في البسملة، لكن أردفها أو ذكر ﴿الرحمن الرحيم﴾ بعد ﴿رب العالمين﴾، وهذا فيه دلالة على أن الذي خلق العالمين هو رءوف رحيم بهم وجاء بعدها ﴿رب العالمين * الرحمن الرحيم﴾ فدلَّ على أنه رءوفٌ رحيمٌ بهم فلم يخلقهم لأجل أن يُعذبهم، ولا لأن يؤذيَهم وإنما ليرحمهم جل وعلا؛ فمنهم من قبِل الرحمة ومنهم من ردَّها ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:107]، فالذي قبِل هذه الرحمة آمن به واتبعه، ومن لم يقبلها لم يؤمن به ولم يتبعه.
وأيضًا فيه دلالة على أنه سبحانه وتعالى هو المنفرِد بالخلق والتدبير في هذا الكون العظيم؛ لأنه لما قال: ﴿ربِّ العَالمين﴾ جميعُ العالمين هو الذي رباهم، وأوجدهم من العدم، وأمدهم بالنِّعم، وأعطاهم الخيرات، ودفع عنهم الأضرار والشرور، فهو ربهم سبحانه وهو غني عنهم. نعم.
{(قال تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ المالك: هو من اتَّصف بصفة المُلك التي من آثارها أنه يأمر وينهى، ويُثيب ويعاقب، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، وأضاف الملك ليوم الدين، وهو يوم القيامة، يوم يُدان الناس فيه بأعمالهم خيرِها وشرِّها؛ لأن في ذلك اليوم يظهر للخلق تمام الظهور كمال ملكه وعدله وحكمته وانقطاع أملاك الخلائق. حتى [إنه] يستوي في ذلك اليوم، الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.
كلهم مُذعِنون لعظمته، خاضعون لعزته، منتظرون لمجازاته، راجون ثوابَه، خائفون من عقابه؛ فلذلك خصه بالذِّكر، وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام)}.
نعم، هذه الآية هي الصفة الرابعة لله جل وعلا، وهي التي تجمع جميع أقسام التوحيد بعد هذه الآية، لمَّا قال: ﴿الحمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ﴾: ﴿لله﴾ هذه ألوهية، و ﴿رب العالمين﴾ ربوبية، ﴿الرحمن الرحيم﴾ أيضًا هذه أسماء وصفات، إذًا هذه الآيات الثلاث مع الوصف الرابع جمعت أقسام التوحيد الثلاثة، وهذا بالاستِنباط والاستِقراء، هذا الذي يُعرف، كما سيأتي في سورة ﴿الناس﴾ كذلك ابتدأها بأنواع التوحيد الثلاثة وختمها بأنواع التوحيد الثلاثة ﴿قل أعوذ برب الناس﴾: ربوبية، ﴿ملك الناس﴾: أسماء وصفات، ﴿إله الناس﴾: ألوهية، فابتدأ كتابه بالتوحيد، وختمه بالتوحيد أيضًا، فدلَّ على أنه سبحانه وتعالى مالكٌ لعبادِه، وقوله: ﴿مالك﴾ فيها قراءتان:
القراءة الأولى: ﴿مالك يوم الدين﴾ هي قراءتهم قراءة عَاصم والكِسائي ويَعقوب من العشرة ﴿مالك يوم الدين﴾ وهي من المِلك بكسر الميم ومعناه المتصرف والمُدبر لهذا الكون العظيم، وقرأ الباقون بغير ألف "مَلِكِ يَومِ الدِّينِ".
يقول الشاطبي:
ومالكِ يوم الدين راويهِ ناصرٌ *** وعند سِراط والسِّراط لقُنبل
وبغير ألف: "مَلِك" هي صفة مُشبهة دالة على الثبوت والاستقراء أيضًا وكلها متواترة، وقد توسع ابنُ جرير في بيان معاني أو توجيه هذه القراءة وكذلك القرطبي ورجَّح أو واختار من هذه القراءات وإن كانت كلها متواترة فابن جرير اختار حذفَ الألف وهي: "ملِكِ يوم الدين"، وهي قراءةٌ شاذة يُرجع إليها في تفسير القرطبي رحمه الله ﴿مالكِ يَومِ الدِّينِ﴾، وجعل المُلك هنا خاصٌّ بيوم الدين مع أنه سبحانه وتعالى مالك ليوم الدين ولما قبل يوم الدين في الدنيا هو المالك الحقيقي؛ لأن في يوم القيامة تتلاشى جميع الأملاك البشرية التي كانت في الدنيا ولا يكون لها ذِكر، والمُلك الحقيقي في الدنيا وفي الآخرة هو للهِ جل وعلا، قال تعالى: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾؟ ما يجيب أحدٌ فيُجيب عن نفسه جل وعلا ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر:16]، لا ينفع أحدٌ مُلكَه في ذلك اليوم إلا من أحسن فيه وقام فيه على الوجه الأتم.
إذًا الملك في الدنيا ملكٌ نسبيٌّ يزول وينتهي ويتلاشى في يوم القيامة، ويوم الدين هو يوم الجزاء والحساب وله إطلاقاتٌ في القرآن الكريم، إطلاقات؛ أنه يُطلق مثلًا على الحكم ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف:76]. ﴿في دين الملك﴾ أي في حُكم الملك، ويُطلق أيضًا على الإسلام والتوحيد ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾[آل عمران:19]، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾[المائدة: 3]، والذي يعتني بهذا هو الدَّامَغاني في "الأشباه والنظائر"، أو ابن الجوزي في "الوجوه والنظائر" لابن الجوزي يعتني بالألفاظ القرآنية ويُبين فيها إطلاقات المفسرين للفظ ويُرجع إليهم، والشيخ هنا ذكر وجهَ تخصيص الإضافة بيوم الدين في كلامه العام، وفائدة تخصيص الإضافة هنا: ﴿مالكِ يومِ الدِّين﴾ تفيد تعظيم ذلك اليوم، وأنه يومٌ مُعظمٌ عند الله؛ لأن كل مَلكٍ ومُلكٍ يزول في ذلك اليوم وينسلخ ولا يبقى له وجود، هذا وجه الإضافة هنا؛ لأن ملكه سبحانه وتعالى يظهر جليًّا في يوم القيامة يظهر جليًّا، تتلاشى فيه جميع الأملاك، ويعترف به كل مخلوق، يعترف بذلك الملك لله كل مخلوق، حتى الجاحدون يعترفون بذلك في ذلك اليوم، قال تعالى: ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك:11].
كلمة: "الاعتراف": جاءت من المشركين في القرآن الكريم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا﴾ جاء ...... ﴿فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا﴾[غافر: 11]، كلمة: "الاعتراف" بالنص أنهم سيعترفون، كل من مات من الكفار ومن هو على وجه الأرض سيموت على الكفر سيعترف يوم القيامة بأنه على خطأ، بأنه على ضلال، ويتمنى الرجوع إلى هذه الدنيا ليعمل صالحًا وأنَّى لهم ذلك، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام:27] في سورة الأنعام، وفي سورة أيضًا فاطر، وفي سورة السجدة: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 12]. إلى آخر الآية.
يبين لك أنه سيكون هناك اعتراف، فنحمد الله على الإيمان، فالإنسان يحمد الله على أنه مؤمن يموت على الإيمان ﴿أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [يوسف: 101].
إذًا هذه الآية الكريمة فيها تخويفٌ للعباد جميعًا أنه سيأتي يوم القيامة ويحاسَب فيه العباد على ما اقترفوه من الذنوب، وقضية البعث والنشور من أكبر القضايا التي أبدأَ القرآنُ فيها وأعاد، كثير ويضرب الله تعالى الأمثلة فيها حتى يروا بأعينهم ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾[الروم: 50]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾[الروم: 20]، ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾[الروم: 17-19]. تخرجون للبعث، والبعث حصل في الدنيا قبل الآخرة لبعض الناس الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذرَ الموت ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: 243] بعثَهم.
وأهل الكهف مكثوا ﴿ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾[الكهف: 25]، ثم بعثهم الله تعالى فجاء بكلمة: "البعث"، وبنو إسرائيل بعثهم الله تعالى ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 56] يعتبر، لابد من العبرة في هذا، الذي يُنكر هذا الشيء الله تعالى بينه في الدنيا، وأما في الآخرة سيكون واضحًا وبَيِّنًا؛ لأن الذي خلقَ فالإعادةُ عليه أهون ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الروم: 27].
إذًا هذه الآية تدل على وقوع اليوم الآخر، وإثبات اليوم الآخر، وهو حقٌّ وصدق، وفي ذلك ترغيبٌ وترهيبٌ للعمل الصالح والبُعد عن المعاصي والذنوب، ولهذا تتكرر قراءة هذه الآية في كل صلاةٍ يَعتبرُ الإنسان بها هذا ما جاء في قوله تعالى: ﴿مالك يوم الدين﴾. نعم.
{(قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أي: نخصُّك وحدَك بالعبادة والاستعانة؛ لأن تقديم المعمول يفيد الحصْر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه. فكأنه يقول: نعبدك، ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك. وقدَّم العبادة على الاستعانة من باب تقديم العامِّ على الخاص، واهتمامًا بتقديم حقه تعالى على حق عبده.
و ﴿العبادة﴾ اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة. و ﴿الاستعانة﴾ هي الاعتمادُ على الله تعالى في جلبِ المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
والقيامُ بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيلَ إلى النجاة إلا بالقيام بهما. وإنما تكون العبادةُ عبادةً إذا كانت مأخوذةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودًا بها وجهَ الله. فبهذين الأمرين تكون عبادةً، وذكر ﴿الاستعانة﴾ بعد ﴿العبادة﴾ مع دخولها فيها؛ لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يُعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي)}.
نعم، شرع الشيخ الآن في بيان معنى: "العبادة والاستعانة" على وجه المعنى الإجمالي؛ لأن العبادة في الأصل في اللغة: هي التذلُّل، يقال: (طريقٌ مُعبَّدٌ إذا كان مُذلَّلًا) يستطيع السائر أن يسير فيه، فإذا كان مُذللًا مُهيئًا للوطء والمشي عليه هذا هو معنى التذلل في أصل اللغة، ويلزم من العبادة هنا: أن تكون مُلازمةً للخضوع والتذلل لله جل وعلا، هذان ركنان في العبادة؛ ولهذا يقول ابن القيم: "وعبادةُ الرحمن غايةُ حبه" - مع الحب والخضوع -
وعبادة الرحمن غاية حبه *** مع ذلِّ عابده هما قطبان
وعليهما فلكُ العبادة دائرٌ *** ما دار حتى قامت القُطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله *** لا بالهوى والنفس والشيطان
مع المحبة والخضوع هذه هي العبادة تكون مع محبةٍ وخضوع وذِلة لله جل وعلا، بمعنى أن العبادة كما أخبر الله تعالى عن أركانها، وأن أركان العبادة ثلاثة:
المحبة.
والخوف.
والرجاء.
هذه هي أركان العبادة، نأخذها من آية واحدة آية الإسراء ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء:57]. هذه الآية الكريمة جمعت أركان المحبة الثلاثة.
إذًا إذا قيل لك: ما أركان المحبة؟ فقل: ثلاث، أما أركان العبادة؟ فقل: ثلاثة" المحبة التي هي مذكورة في الوسيلة: التقرب إلى الله، الوسيلة، والخوف، والرجاء. هذه أركانها مع أن لها أيضًا التذلل والخضوع لله جل وعلا، هذه هي العبادة الحقة التي أرادها الله تعالى من عباده، والعبادة لا تؤخذ إلا من القرآن ومن السُّنة، فهي حق الله الأعظم؛ ولذلك قدَّم الضمير في ﴿إياك﴾ : ﴿إياك نعبد﴾ فقدمه، فكلمة: "إيَّا" ضمير منفصل، والكاف هنا "إياكَ" حرف خطاب لله تعالى.
إذًا بعد أن وصف العبد ربَّه بتلك الأوصاف ﴿الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين﴾ وصفَ العبدُ أيضًا ربَّه بأنه مختصٌّ بالعبادة، فقوله: ﴿إياك نعبد﴾ أي: لا نعبد إلا إياك ربنا المتصف بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات التي تقدمت في الآية، إياك نعبد يا ربنا المتصف بصفات الألوهية والربوبية، وصفات الأسماء والصفات، وصفات المُلك التَّام الكامل، كل الكلام هذا يأتي حتى يتهيأ العبد ليدعو ربه؛ لأنه بعدها سوف يدعو ربه، التهيئة هذه اسمها: "التهيئة" كما سيأتي بيانها.
إذًا العبد يخاطب ربه ويناجيه بضمير الخطاب دون واسطة، والإقرار باختصاصه بالعبودية بالعبادة والقدرة على العون والطاعة والهداية، وهذا هو سر الالتفات والانتقال من الغيبة إلى الخطاب، انتقل من الغيبة إلى الخطاب ﴿إياك﴾ هذا خطاب، وهذا هو السر في الالتفات في هذا ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ إذًا قوله: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ قدَّم هنا ﴿إياك﴾، ولم يقل: "نعبد إياك"، فقوله: ﴿إياك﴾ مفعولٌ به مُقدَّم للاختصاص؛ لأن العامل فيه ﴿نعبد﴾؛ العامل في إياك: ﴿نعبد﴾، وتقديم المعمول يفيد الحصر والقصر عند أهل البيان، أي: لا نعبد إلا إياك ولا نعبد غيرك يا ربنا، فتقديمه المفعول هنا يدل على الاختصاص والحصر والقصر في هذا؛ لأن هذا هو المعنى المفهوم من هذه الآية.
إذًا نقول: هناك معنى للفظ معنًى لغوي، وهناك معنى تفسيري ولابد أن يُفهم هذا المعنى التفسيري والمعنى اللغوي؛ فالمعنى التفسيري هنا: نخصُّك يا ربنا بالعبادة والاستعانة ولا نُشرك معك غيرك في ذلك، والعبادة هنا عامة تتناول جميع أنواع العبادة: العبادة القولية، والقلبية، والعملية، والمالية كلها يتناولها على حدِّ قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21].
إذًا العبادة مع هذا التعريف الجامع الذي ذكره الشيخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية نقول: مع التذلل والخضوع لله جل وعلا، فأنت تضع جبهتَك في الأرض تسجد ذِلةً وخضوعًا لله سبحانه وتعالى واستجابةً لأمره القائل: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾[العلق: 19]. المتعلق هنا محذوف يعني ﴿إياك نعبد﴾ نعبد ماذا؟ عامة يعني هنا المتعلق محذوف، والاستعانة محذوف ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ العامل لم يُذكر هنا، وهذا كثير في القرآن ليعمَّ؛ ليعم كل عبادة ويعم كل استعانة لله جل وعلا، والاستعانة هي طلب العون؛ لأنك تطلب من الله أن يعينك، كما قال سبحانه: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾[البقرة: 45]؛ أي: اطلبوا العون من الله.
الاستعانة لغةً: طلب العون، هذا لغةً، تفسيرًا: نطلب عونَك لنا يا ربنا على طاعتك وعلى أمور ديننا كلها، هذا معنى التفسير، إذًا تُعرِّف اللفظة معناها لغويًّا ثم تعرفها معناها تفسيريًّا أو بيانيًّا أو معنىً، وإن كانت هنا العبادة عامة لا يُخصَّص منها شيء، كلها لله والاستعانة أيضًا عامة ولكنها تختلف عن العبادة؛ لأنك قد تستعين بغيرك فيما يقدر عليه، الإنسان يستعين بالإنسان فيما يقدر عليه، الحي يستعين به، واستعانتك بغيرك هي استعانةٌ من الله لك، يعني أنت إذا طلبت العون من غيرك في أمرٍ ما فهي استعانةٌ في الأصل من الله تعالى لك مثل: الإنعام، أنت تُنعم على أحد بنعمة تعطيه فهي أصلها نعمة الله عليك، كما قال سبحانه: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾[الأحزاب: 37].
فنعمتك يا محمد صلى الله عليه وسلم على زيدٍ بن حارثة هي من نعمة الله عليك، فالاستعانة تُطلب أيضًا من المخلوق الحي القادر في ذلك. إذًا كلمة: ﴿إيَّاكَ نعبدُ﴾ متعلقة بماذا؟ متعلقة بالألوهية، و ﴿إياك نستعين﴾ متعلقة بالربوبية، فـ﴿إياك نعبد﴾: هذه ألوهية، ﴿إياك نستعين﴾: ربوبية، شوف كيف التعلق؟! متعلقة بما تقدم بها حتى يُعرف؛ لأن العبادة: هي طلب الله تعالى من العبد، و الاستعانة: هي طلب العبد من الله.
أعيد: العبادة هي طلب الله من العبد أن يعبده، والاستعانة: طلب العبد من الله أن يعينه على ذلك، هذا هو معناها. طيب، ما وجه تكرار الضمير هنا ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾، ولم يقل: إياك نعبد ونستعين؟ للحثِّ على المبالغة في طلب العون من الله، وأن طلب العون من الله هو أصله عبادة، فيه نقول: مبالغةٌ في طلب العون من الله تعالى للعبد، وأن الاستعانة هي من العبادة؛ لأنه لا يكون عونٌ للعبد إلا بتوفيق الله، فأنت تتعبَّد الله تعالى بالاستعانة وأن تطلب منه أن يعينَك تقول: (اللهم أعنِّي)؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ: «لا تدعن دُبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذِكرك وشكرِك وحُسنِ عبادتك».
«أعني»: فأنت تطلب العون من الله جل وعلا.
فلذلك على العبد وهو يقرأ مثل هذه الآية أن يطلبَ العون من الله، ولا يحتاج إلى مخلوقٍ إلا عند الاضطرار فيما يقدر عليه؛ لأن بعض الناس حتى على أشياء قليلة يذهب إلى فلان أشياء قليلة باستطاعته أن يُدركها ويُحققها لكن كسل منه هو؛ لأن الحاجة إلى الناس مذلة، ولهذا يقول القائل كما يقول شيخ الإسلام في أول الفتاوى عند الاستعانة: "بين التذَلل والتدلُّل" – يعني مع العبادة - كونك تتذلل له أو تتدلل –
بين التذلُّل والتَّدلل نقطة *** تتحير في رفعها الأفهام
يعني مثلما يقولون عندنا في العوام: "تدلل ما تذلل تقول كذا وكذا أنا أريد كذا وكذا! خليك رافع الرأس عزيز"، ويقول حاتم الأصم: "واعلم أن الإنسان يكون عزيزًا مُكرمًا عند الناس ما لم يحتج إليهم، فإذا احتاج إليهم ولو في شربة ماء قل قدرُه عندهم".
بقدر حاجته إليهم، فتوجَّهْ إلى الله واطلب من الله العون، وفيها رد على القبوريين والصوفية، هذه الآية، الذين يذهبون إلى الأموات وإلى القبور وإلى الأضرحة ويطلبون منها العون والمدد ﴿أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾[الأنعام: 31]، ﴿أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾[النحل: 59]، ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[الكهف: 104].
وهذه الآية الكريمة: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ هي الآية التي يدور عليها فلك القرآن وتنزُّل القرآن كله على هذه الآية الكريمة: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ فيها وقفات عظيمة هذه الآية في معانيها ودلالتها، انظر إلى الحديث الآن الذي في صحيح مسلم كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذُ أو يطلب الاستعاذة ويستعيذ بالله ثم يعترف، يقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
يعني دعا ثم اعترف ثم أتبعه بالاعتراف بالعجز وهو الكامل، وهو الرسول الكامل البشري، اعترف أمام ربه بالعجز في الدعاء قال: "لا أُحصي ثناءً عليك" - هذا الاعتراف - "لا أُحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، أي: لا أستطيع يا ربي أن أوفِّيَ لك الشكر والحمد على نعمِك وأفضالك وخيراتك عليَّ. أنا قرأت وأنتم تسمعون مثل هذا الدعاء في رمضان كثيرًا، وهذا كان يقوله في آخر الليل عليه الصلاة والسلام «لا أحصي ثناءً عليك» اعتراف منه عليه الصلاة والسلام بالعجز أمام ربه جل وعلا.
قال العلماء في هذه الآية قوله تعالى: ﴿نعبد﴾ ردٌّ على الجبرية الذين يقولون: إن العبد ليس له إرادة ولا مشيئة، هذا ردٌّ عليهم، وليس له فعل، وفي قوله: ﴿نستعين﴾ ردٌّ على القدرية الذين يقولون: إن العبد هو الذي يخلق فعلَه، هو الذي يخلق فعله بنفسه بدون إرادة من الله ! كيف يخلق فعله والله تعالى يقول: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصافات:96]؟! ردٌّ لآيات القرآن وهم لا يشعرونه، أو يؤولونها على غير تأويلها الصحيح، بالعقل يأخذون المعنى بالعقل وليس بالأثر هذا هو الواقع فيهم.
إذًا نقول في الرد على مثل هؤلاء: أن استعانة العبد في الآية تدل على أن مشيئة العبد غير نافذة إلا بإذن الله تعالى، فلولا معونة الله تعالى لعبده لما تمكن من العبادة لولا معونة الله تعالى للعبد ما تمكَّن من العبادة؛ لأن هناك أُناس كفار حكم الله عليهم بالكفر وأنهم يموتون على الكفر، خُلقوا كفارًا وسيموتون كفارًا، هذا في علم الله، وقد ثبت هذا في عهده عليه الصلاة والسلام ممن مات على الكفر: ابن معيط، وعمه، وأبو جهل، وأبو لهب، وهذا في آية تدل على ذلك والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾[البقرة: 6].
لأنه سبق فعلهم من أنهم لا يؤمنون لكن لا يمنع هذا من الدعوة تدعو إلى الله لأنك لا تعلم هذا الشيء، والله تعالى قد قال فيهم: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ﴾ ماذا بعد؟ ﴿وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾ الموتى يكلمونهم ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا﴾ ماذا؟ ﴿مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾[الأنعام:111].
لأنه سبق فعلهم من أنهم لا يؤمنون، انتهى الأمر، فلذلك هناك صِنفٌ من الكفار يموتون على الكفر، وصِنفٌ من الكفار يُسلمون ويؤمنون ويتوبون ويغفر الله لهم، وهذا كله في علم الله جل علا، وأما الأنبياء فإنهم مأمورون بالبلاغ والدعوة ولا يعلمون شيئًا وكذلك العلماء والدعاة في هذا الأمر، وأشار الشيخ إلى أن العبودية هنا على نوعين:
عبودية عامة.
وعبودية خاصة.
كما تقدم في "الرحمة" أيضًا، وأن العبودية العامة هي لكل المخلوقين ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم:93] نعم هذا خبر، والخاصة هي عبوديةٌ لأوليائه، لأهل محبته ورضوانه، وأهل طاعته هو الانقياد، وهذا كثير في القرآن ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا﴾[الفرقان:63]، ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾[الزمر:17]، فهؤلاء هم عباد الله عباد الرحمة عبادة خاصة، ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا﴾[ص:45]، ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا﴾[ص:17] فهذه عبادة خاصة، وكما قلنا: إن العبادة عامة لكنها أيضًا تكون على ثلاثة أنحاء:
عبادة القلب.
وعبادة اللسان.
وعبادة الجوارح.
وهذه ينبغي على المسلم أن يراعيها ولا يخالف شيئًا منها في عبادة الله، في قلبه التعظيم لله وفي لسانه النطق والتحميد والشكر والتسبيح والتهليل، وفي جوارحه الانصياع فلا يدخل في محرم ولا يشاهد محرم ولا يسمع محرم وإلا خالف العبادة، ونقص حظه في هذه العبادة، فكيف الإنسان الآن يصلي كل يوم خمس صلوات اختلافًا عن النوافل ويقول: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾، ويذهب ليرتكب المعاصي والمحرمات !، أو يتعاطى الربا، أو يتعاطى الزنا !، فهذا مخالف للعبادة مخالف للعبادة ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[العنكبوت:45]، لكن قد يكون صلاة بلا قلب بلا حضور بأن يتبع الشهوة هذه شهوات والله تعالى يقول: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾[مريم:59]، لماذا قرن الشهوات بالصلاة؟
لأنه يصلي هو يصلي لكنه يُضيع صلاته باتباع الشهوات يصلي ثم يذهب إلى الشهوات المحرمة، أي صلاةٍ هذه؟ هذه إضاعة للصلاة والله مُطلعٌ عليك ويعلم عنك ذلك ﴿فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى﴾[طه:52]. لا يخفى عليه شيء، لكن يوم القيامة يبدو ذلك للناس كلهم ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة:6] هم الذين ينسونه، والله هو الذي يحصيهم، فالعبادة هنا نوعان: عامة وخاصة، والعبودية هي وصف أكمل الخلق وصف أكمل خلق الله جل وعلا وهم الأنبياء؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ [النساء:172]، فكلهم عبيدٌ لله، وقد وصف الله تعالى نبيه في أعلى المقامات بوصف العبودية وليس بوصف الرسالة ولا النبوة، قال: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان:1] مقام التنزيل ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾، ولم يقل: (رسوله) هذا في إنزال القرآن، وفي مقام الوحي ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾[النجم:10].
وفي مقام الدعوة ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾[الجن: 19] أعلى المقامات، وفي الإسراء أيضًا الرابعة ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾[الإسراء:1]؛ لأن العبودية لله شرفٌ وعزٌّ وعلو ورفعة، ولذلك وصف الله تعالى بها أكمل خلقه.
يقول ابن القيم: "إن تقديم العبادة على الاستعانة في الآية من باب تقديم الغايات على الوسائل".
لأن العبادة هي الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق، فمن أعرض عن هذا السبيل أي العبادة تعِس وانتكس، واقترنت به شياطين الجن والإنس يؤزونه يزيدونه بُعدًا ومروقًا عن الدين والفطرة قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ يعني: عن عبادة الرحمن ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾[الزخرف:36]؛ لأننا نذكر الآية ونذكر ما يدل عليها من القرآن ما في شيء جديد، من القرآن وكلام الله وكلام رسوله وبيان كلام العلماء في هذا، وقال تعالى عنه: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾[مريم:83] يعني: استمروا على ما أنتم عليه، يُزينون لهم الباطل، ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾[العنكبوت:38]، القرآن ينطق بالحق، يكفي أن الإنسان يقرأ كلام الله ويعرف الحق ...، لا يقرأ إلا بتدبُّر وتأمل وجمع للآية مع الآية؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضًا والآية تشهد للآية، وهكذا، هذا هو العلم الذي ينفع الإنسان ويفيده في حياته ودنياه، والكلام على الاستعانة يطول، على الاستعانة والعبادة والاستعانة، ولكن ما ذكرناه فيه الكفاية. نعم.
{(قال تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أي: دلنا وأرشدنا ووفقنا للصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله، وإلى جنته، وهو معرفة الحق والعمل به، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علمًا وعملاً. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد؛ ولهذا وجب على الإنسان أن يدعوَ الله به في كل ركعةٍ من صلاته؛ لضرورته إلى ذلك.
وهذا الصراط المستقيم هو: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ﴿غَيْرِ﴾ صراطِ ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير صراط ﴿الضَّالِّينَ﴾ الذين تركوا الحق على جهلٍ وضلال، كالنصارى ونحوهم.
فهذه السورة على إيجازها، قد احتوت على ما لم تحتوِ عليه سورة من سور القرآن، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾)} .
هذا الكلام الذي في قوله: "فتضمنت" يعني بيان مقاصد السورة، بيان مقاصد سورة الفاتحة، أو بيان ما اشتملت عليه من الأغراض. نعم.
{(فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيدَ الربوبية يؤخذ من قوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وتوحيدَ الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة يؤخذ من لفظ: ﴿اللَّهِ﴾، ومن قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، وتوحيد الأسماء والصفات، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى، التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله من غير تعطيلٍ ولا تمثيلٍ ولا تشبيهٍ، وقد دلَّ على ذلك لفظ ﴿الْحَمْدُ﴾ كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ لأن ذلك ممتنعٌ بدون الرسالة.
وإثباتَ الجزاء على الأعمال في قوله: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ وأن الجزاء يكون بالعدل؛ لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.
وتضمنت إثباتَ القدَر، وأن العبد فاعلٌ حقيقةً خلافًا للقدرية والجبرية، بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [والضلال] في قوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع [وضال] فهو مخالف لذلك.
وتضمنت إخلاصَ الدين لله تعالى، عبادةً واستعانةً في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فالحمد لله رب العالمين)}.
بدأ بهذه الآية: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ما تقدم قبل هذه الآية فهو حمدٌ وثناءٌ وتمجيدٌ لله جل وعلا، وبعد ذلك بدأ بالدعاء، وهذا الدعاء لم يأتِ إلا بعد أن يُقدم المسلم بتلك المقدمة العظيمة؛ لذلك ينبغي للمسلم إذا أراد أن يدعو ربه أن يُقدم بين يديه الثناء والتعظيم له سبحانه، وهذا دل عليه القرآن أيضًا في مواضع عندما قال الله جل وعلا: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾[البقرة:184]، قال قبلها: ﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 185] أمرهم بأن يكبروا الله ويعظموه ثم يدعوه، وكان هذا من منهج الأنبياء عليهم السلام، وفي سورة الشعراء بَيَّن الله ذلك بيانًا واضحًا بَينًا شافيًا في قصة إبراهيم عليه السلام لما كان يدعو قومه قال: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾[الشعراء: 78-80].
إلى أن قال: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي﴾ [الشعراء:82-83]
دعا ربه، بعد ماذا دعا ربه؟ بعد التعظيم بعد أن عظَّم ربه، دعا ربه، وهذا أمرٌ ينبغي أن يتنبه له العبد إذا أراد أن يدعو فيُثني على ربه بما هو أهله سبحانه، ثم بعد ذلك يدعو، وهكذا في هذه السورة، سورة ﴿الفاتحة﴾ قال: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ طلب الهداية بعد ماذا؟ أن أثنى على ربه جل وعلا وحمِده ومجده بذلك، وهذا يسميه العلماء: "الدعاء الواجب" أين الدعاء الواجب على العبد أن يقوله؟ هو هذا ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾؛ لأن قوله: ﴿اهدنا﴾ هو دعاءٌ وطلب، دعاء وطلب، وصيغة الدعاء والأمر واحدة؛ لأن كلًّا منهما طلب، وهذا من أفضل الأدعية، أن يدعو به الإنسان؛ لأنك تدعو إلى الصراط المستقيم، والصراط المستقيم هو الإسلام، هو القرآن، هو السُّنة، هذا هو الصراط؛ ولهذا فُسر بهذا، فُسر بأنه الإسلام، وفُسر بأنه القرآن وبأنه السُّنة، وهذا تفسيرٌ بالمثال وكلها معانٍ متقاربة تحتملها الآية وتدل عليها، تدل على هذا؛ لأنه لا يمكن إسلامٌ بلا قرآن ولا سُنة ولا يمكن قرآن وسُنة بلا إسلام كلها مع بعض هذا هو الصراط.
إذًا نقول: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ هو الذي جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾[الأنعام:153]؛ هذا هو الصراط المستقيم: (الإسلام)، فتأمل كيف أمر ثم نهى؟ الأمر في ﴿فاتبعوه﴾ وجوب، والنهي ﴿ولا تتبعوا﴾؛ لأن تأخير الأمر عن وقت الحاجة لا ينبغي فلم يأت في القرآن بأمرٍ واجب إلا وبعده النهي مباشرة، تأمله في القرآن كله!.
يقول تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ﴾[الأعراف:3] "نهيٌ".
وقال: ﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ﴾؟ أمر - ﴿وَلا تَتَفَرَّقُوا﴾[الشورى:13].
وقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران:103] يأمر ثم ينهى، وهذا هو منهج القرآن الكريم في هذا.
"والصراط": الصراط كما ذكر الشيخ هنا: هو الطريق الواضح البَيِّن الذي لا اعوجاج فيه، في هذا؛ لأن الصراط هو الطريق، ويُسمى لغةً وسيأتي السِّراط بالسِّين يسمى السِّراط وهو الطريق، قالوا: لأنه يبتلع من يمشي عليه، فإذا مشى عليه الإنسان ذهب ومشى، كالابتلاع!!
الصراط: هو الطريق المُعبَّد، في أصل اللغة: الطريق المُعبد الواضح الذي لا اعوجاج فيه، هذا هو الطريق، والإنسان بعقله إذا رأى طريقين: طريقًا سالكًا وطريقًا غير سالك، وهو يذهب إلى الطريق السالك؛ لأن هذا صراط، ماشي، أما الطريق الذي لا يعلمه قد يتضرر به، فالإسلام طريقٌ واضح بَيِّن ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾، وزاد وضوحًا بوصف الصراط بأنه مستقيمٌ لا اعوجاج فيه، كما يقول الطبري: "الصراط المستقيم هو الطريق البَين الواضح الذي لا اعوجاج فيه"، وهو دين الإسلام منذ أن شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، والإسلام بعامةٍ هو الذي بُعث به نوحٌ عليه السلام، هذا بمفهومه العام، الإسلام هو دين الأنبياء؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾[آل عمران:19].
وأما بمفهومه الخاص: فهو شِرعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة: 48] هذا هو المعنى اللغوي، وأما المعنى التفسيري لقوله تعالى: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ أي: دُلنا وأرشدنا يا ربنا ووفقنا إلى سلوك الصراط الذي شرعته لنا، والصراط وُصف في القرآن بأنه مستقيم في أكثره كله إلا بعض الآيات القليلة ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ [الحج: 24]، ما فيه استقامة، لكن جاءت كلمة: ﴿الحميد﴾ تدل على الاستقامة في هذا، ووصف بأنه مستقيم في هذا.
إذًا لزوم الصراط المستقيم هو الإسلام، تطبيق الإسلام كاملًا بدون مخالفةٍ فيه، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ﴾ - الإسلام هو الشريعة - ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا﴾ - تسير عليها - ﴿وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18] من الضُّلال، من المشركين، من اليهود، من النصارى، من العُصاة، من غيرهم، هؤلاء هم الذين يضلون عن الصراط المستقيم، ويزيغون. ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28] منفرطٌ، فهذا ابتعد عن الصراط المستقيم، وأي إنسان يمشي في خط مستقيم مثل إنسان يسافر الآن من القصيم للجنوب لكذا للشمال ما يستطيع أنه يطلع على الطريق، مباشرة هذا الدوران، سيتضرر، يأتيه حادث أو يأتيه شيء وهو متمسك أنه ما يزيغ عن هذا الخط ويمشي عليه، إذًا هذا هو العمل في الإسلام تمشي على الخط المستقيم في التطبيق وفي العمل، وإذا ما دعتك نفسك إلى شيء يخالفه فتب إلى الله، فتب إلى الله، ارجع؛ لأن الإنسان يُذنب لكنه يتوب إلى الله ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه:82].
قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾؛ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هنا لاحظوا معنا فن لغوي دقيق:
هنا لم يتعد بشيء ما قال: (اهدنا إلى الصراط) ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾؛ لأن لفظ الهداية إما تتعدى بنفسها أو تتعدى بحرف، وهنا قال: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ﴾ مثل هذه الآية، ومثل قوله تعالى: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾[الفتح:2] ما فيها تعدي بحرف، مثل: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10] ما قال: (وهديناه إلى النجدين)؛ ﴿وهديناه النجدين﴾، لكنه قد يتعدى بحرف إما "إلى" أو "اللام"، اللام مثل: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراء:9] هذه ماذا؟ اللام، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾[الأعراف:43] باللام تعدى باللام ما تعدى بنفسها، وإذا تعدى بالحرف الثاني بـ "إلى" ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الشورى:52]، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾[الحج:54]، ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الأنعام:87].
يعني إما أن يتعدى لفظ الهداية بنفسه كهذه الآية، والآيات الأُخر ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10]، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[الإنسان:3]، وإما أن يتعدى بحرف "إلى"، أو بحرف: "اللام".
يقول سائل: ما وجه ذلك؟ ما فائدة ذلك؟ ما وجه التعدية بنفسه؟ تعدية الفعل بنفسه ما وجهه في هذه الآية؟ قال: ليجمع عدة معانٍ في آنٍ واحد؛ لتجتمع لديك عدة معانٍ في آن واحد، ولأن التعدية بدون حرف ماذا تعني؟ تعني أنك في الصراط المستقيم ملازمٌ له، أنك في وسط الصراط المستقيم، فالذي يصلي هو سائر في الصلاة المستقيم ما يحتاج إلى تعدية في الحقيقة، والذي يذكر الله والذي يصلي والذي يزكي والذي يصوم والذي يحج والذي يتعبد الله ويقوم الليل هو في الصراط المستقيم، يعني متلبِّس بالصراط المستقيم في هذه الحالة، فمن كان فيه، من كان في هذا الصراط هو يطلب الهداية في الثبات عليه، يطلب الهداية في الثبات عليه، ويزداد؛ لأنه إذا طلب الثبات والهداية عليه فالله تعالى يزيده ويعطيه، يقول تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾[مريم:76] يزيدهم هداية على هداية، وقال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد:17] يعطيهم هداية؛ لأن الله كريم، فضله واسع عظيم من أقبل إليه أعطاه وزاده، من شكره زاده، من ذكره أعطاه زيادة عظيمة، من أحب القرآن كل يوم زادت هدايته؛ لأن كل ما تنزل آية في وقت الصحابة يثبتُون ويزدادون هداية على هداية، فأنت عندما تقرأ سورة أو آية فتزداد هداية على هداية، هداية على هداية، وكم هداية تجمع في هذا؟ شيء كثير، أين العقول التي تُدرك ذلك؟
لذلك المُصلي يطلب من ربه الهداية كل يوم؛ ليثبت عليها حتى لا يزيغ عن هذه الهداية؛ لأن العبد مفتقرٌ إلى ربه في كل لحظة، في كل لحظة مفتقرٌ إلى ربه، وحاله يطلب منه التثبيت والهداية، إذًا معنى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ أي: ثبتنا يا ربنا على هذا الصراط المستقيم الذي شرعته لنا ووفقتنا له، واهدنا يا ربنا إذا ما زغنا وضللنا عنه، أرجِعنا إليه، أرجِعنا إلى هذا الصراط يا ربنا؛ لأن الإنسان بشر قد يذنب فيطلب من ربه هذا الدعاء في الصلاة ليرجع إلى ربه؛ لأن الإنسان مركب فيه غرائز يُذنب ويعصي لكنه يرجع، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم».
لكن هناك شروط للتوبة، ما هو كل إنسان يُذنب ثم يتوب ثم يُذنب فهذه مخادعة لله!، فالله تعالى وضع شروطًا فيها، ما هو البشر الذين وضعوا الشروط، الله الذي وضع الشرط في هذا، الآية، الآية ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه:82] "اهتدى" ما هو؟ لا يرجع للذنب مرة ثانية إلا إذا غلبته نفسه وهواه وشيطانه فيرجع، لكن كونه يُحدِّث نفسه أنه يرجع ثاني مرة لا، فهذه مخادعة لله.
يقول أبو حيان في التفسير: ومضمون هذه الجملة الذي هي ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم الله عليه؛ لأن من صدر منه حمد الله وأخبر بأنه يعبد الله ويستعينه فقد حصلت له الهداية، لكنه يسأل دوامها والاستمرار عليها وبقاءها له حتى يُختم له بالخير، يُختم له بعمل صالح، والشيخ ما ذكر أنواع الهداية هنا، لكن العلماء يذكرونها ﴿اهدنا﴾، والهداية كما تعلمون هدايتان:
هداية دلالةٍ وإرشادٍ وبيان.
وهداية توفيقٍ وإلهام وقبول.
الأولى تكون من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو البيان والإرشاد والدلالة فهي هداية عامة، ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الشورى:52]، الإنسان يريد أن يهدي غيره، هذه هداية عامة، وأما هداية التوفيق والإلهام والقبول فلا تكون إلا من الله ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[القصص:56]، ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة:272]، قال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النحل:9]، وقال سبحانه: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[طه:50].
هذه هداية القبول والتوفيق والإلهام، فهي لا تكون إلا من الله؛ فالإنسان يطلب هذه الهداية من الله ويسعى أيضًا في هداية غيره إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، الصراط المستقيم وُصف بأنه مستقيم، المستقيم قالوا: هو اسم فاعل من استقام، وهو المعتدل الذي لا اعوجاج فيه ولا تعاريج، فلا يضل سالكه ولا يتردد ولا يتحير، مثل إنسان يمشي في طريق بري مسفلت تام ومنور وعليه علامات وهو مطمئن ماشي في هذا الخط وهو مطمئن وعليه إرشادات ولوحات لا اعوجاج فيه ولا يتردد ولا يتحير، كذلك المسلم الذي أنعم الله عليه بالإسلام يعلم أنه في طريق الإسلام طريق صحيح واضح بَين يهدي للتي هي أقوم، يهدي إلى الله ويهدي إلى رضوانه، ولكن ليس ثمة معرفة بهذا الصراط إلا من طريق القرآن والسُّنة، لا يُفسر الصراط على الهوى، وجاء في قراءات فيها؛ جمهور القراء قرؤوا بالصاد الخالصة ﴿اهدنا الصراط﴾، وقرأ قُنبل بالسين، وقرأ أيضًا حمزة بالإشمام الإشمام بين الصاد والسين، فالجمهور بالصاد هي لغة قريش، ومن قرأ بالسين لأنها الأصل، ومن قرأ بالإشمام هو خلط صوت الصاد بصوت الزاي، فيتولد منهما حرفٌ ليس بصادٍ ولا بزاي، فتقول: (اهدنا الصراط) ليست صادًا خالصة ولا سينًا خالصة، وعند سراط والصراط لقُنبلا.
وفيها إشمام، أيضًا الإشمام هو الخلط هنا بين هذا، الصراط هنا السؤال: هل هو مُعرف أم منكر؟ مُعرف، صح الصراط هنا معرف؛ لأن الصراط يأتي معرفًا في بعض الآيات ويأتي مُنكرًا في بعضها، وأما في هذه الآية فإنه مُعرف وهذا من المسائل المهمة تعريفًا باللام، وهنا زيادة التعريف ففيها تعريفان:
تعريف باللام.
وتعريف بالإضافة.
(اهدنا الصراط صراط الذين) مضاف، وهذا تعريف، فما يقال: الثاني نكرة وإنما هو معرف، ما فائدة ذلك التعريف باللام والتعريف بالإضافة؟
فائدته: تعيينه واختصاصه وأنه صراط واحد لا يتعدَّد، يجب اتباعه وسلوكه؛ لأنه الطريق المُوصل إلى الله تعالى وإلى جنته، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي﴾ - هذا مُعرف بالإضافة - ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾[الأنعام:153]. إذًا زيادة التعريف الأول فيه زيادة بالتعريف بالإضافة، فاكتسب تعريفين، اكتسب الصراط تعريفين في هذا، وهذا يدلك على أن هذا هو الصراط الواحد الذي لا يتعدد ولا يتغير، ثابت، هذا هو الصراط الذي أمر الله تعالى بسلوكه والانقياد له وأمر بتكراره في الصلوات، وقد يأتي أيضًا مذكرًا في كثيرٍ من الآيات لكنه يأتي مذكرًا ثم مضافًا بالمعرفة. ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ - مذكر - ﴿مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام:161]، وُصف الصراط هنا بأوصاف، وصفه بأوصاف، وتتبَّعْ لفظة الصراط في القرآن واقرأ ما قاله المفسرون عليها لتزداد بذلك علمًا إلى علم ﴿اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم﴾ "صراط الذين أنعمت عليهم" لم يأت تعريف أو بيان لمن هم الذين أنعم الله عليهم وإنما يأتي في آية أخرى، من يذكرها لنا؟
{سورة النساء}
نعم سورة النساء، قال: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾؛ إضافة - ﴿وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا﴾[النساء:69]، هؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم، إذًا كلمة: ﴿اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم﴾ تدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه وفيها ردٌّ على الروافض؛ لأنه ذكره في آية النساء ومن الصديقين الصديق الأول من هو؟ أبو بكر، ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ﴾ إذًا هذه الآية تدل على إمامة أبي بكر، وقد أشار إلى هذا الشنقيطي في "أضواء البيان" فليرجع إليه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز شيخ الاسلام ابن تيمية
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات