آداب المسجد في الاسلام
آداب الدخول والخروج من المسجد
فإذا دخل المسجد فيسن له أن يقدم رجله اليمنى في الدخول وأن يسمي "بسم الله" ثم يصلي على النبي -عليه الصلاة والسلام- ثم يقول: "اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك"، فإذا خرج من المسجد فليقدم رجله اليسرى وليقل: "اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" وذلك بعد التحية والصلاة على النبي.
والدليل على كل ما ذكر هو ما ورد بالأحاديث النبوية الشريفة وهي كثيرة، منها: الحديث الذي يرويه الصحابي الجليل أنس بن مالك، قال:كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل المسجد قال: « بسم الله، اللهم صلِّ على محمد»، وإذا خرج قال: « بسم الله، اللهم صلِّ على محمد».
ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم: « إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك».
وكان ابن عمر إذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى، وإذا خرج بدأ برجله اليسرى.
وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ (1)، قال: (هو المسجد، إذا دخلته فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).
تحية المسجد
ويشرع صلاة ركعتين لمن يدخل المسجد لحديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين
ولم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام تسميتها بتحية المسجد ولكنها تسمية الفقهاء
ويسن لمن دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين لأمره صلى الله عليه وسلم الرجل الذي دخل المسجد أن يصلي ركعتين كما في حديث
دخل رجل يوم الجمعة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب فقال:« أصليت ؟» قال: لا قال:«صل ركعتين»
الاعتكاف في المسجد
ويشرع الاعتكاف في المسجد سواء في رمضان او غيره ويتأكد ذلك في رمضان وآكد ذلك في العشر الآخير من رمضان ويدل على ذلك عموم قول الله تعالى ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ وقد اعتكف عليه الصلاة والسلام العشر الأواخر من شهر رمضان، واعتكف العشر الوسطى كما في الصحيح من حديث أبي موسى
حجز المكان في المسجد
قال الشيخ عبد العزيز السدحان حفظه الله في كتابه الماتع حجز المكان في المسجد
ومن المسائل المتعلِّقة بالمساجد التي كثر كلام أهل العلم فيها وشدَّدوا في النهي عنها، وبيَّنوا ما يترتّب عليها من المساوئ: مسألة "حجز المكان في المسجد"؛ فهذه المسألة أصبحت مألوفةً في كثير من المساجد، وبخاصة في الحرمين والمساجد التي يقصدها المصلّون لحُسن تلاوة أئمّتها، أو للصلاة على الجنائز فيها.
حتى إنّ الداخل للمسجد مبكِّرًا يعرف سلفًا أنّ هناك أماكن محجوزة بسجاجيد أو كراسي أو محامل مصاحف وغيرها، فيحرم المتقدِّم إلى المساجد بسبب فعل المتأخِّر.
ومن لطيف القول في هذا ما ذكره صاحب كتاب "قرة عين العابد" فقد قال ما نصّه:
"... وكان من جملة ذلك ما عمَّت به البلوى، وكان على قلب المؤمن أثقل من جبل رضوى! وهو حجز المساجد والأماكن الفاضلة وفرش سجاجيد وخرق بأصحابها غير آهلة، بل تتّخذ للصلاة عليها وتُهيَّأ قبل الوصول إليها، وينبني على ذلك من الأحوال ما يكون داعيةً لارتكاب الأهوال، فمنها: إدخال الحزن على قلب العبد المشتغل بعبادة ربِّه..."(2).
وصدق رحمه الله تعالى؛ فإنّ العبد يُصاب بالحزن والغبن إذا تقدَّم وحُرم الجلوس بسبب حجز تلك الأماكن، بل قد يجرُّه ذلك إلى أن يفعل كفعلهم أو يقع قبل كلِّ صلاة في مجادلة معهم عند حضورهم إلى تلك الأماكن التي احتجزوها، وكان الأولى بأولئك الذي يحجزون الأماكن أن يسارعوا أو يسابقوا إلى فعل الخيرات، كما قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ (3)،
﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم ﴾ (4).
وكما وصف الله أنبياءه بقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ …﴾ (5).
ومن المسارعة: المسابقة إلى الخيرات والتقدّم إلى المساجد بأبدانهم واستشعار أجر التبكير وغير ذلك من المصالح الشرعية في مثل هذه المواطن.
وفي الوقت نفسه أن يحذروا من ضرر أحد من المسلمين؛ ذلك أنّ ضرر المسلم لا يجوز في أمور دنياه، فكيف في أمور دينه؟ قال صلى الله عليه وسلم: « لا ضرر ولا ضرار»(6).
وقال صلى الله عليه وسلم: « من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتُهم»(7).
فإذا كان هذا الوعيد فيمن آذى المسلمين في طرقهم، فكيف بمن آذاهم في مساجدهم وحرمهم خيرًا سبقوا إليه واستأثر هو به بدون حقّ؟!
ألم يتذكّر هذا قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: « من أكل من هذه البقلة: الثوم ـ وقال مرَّةً: من أكل البصل والثوم والكراث ـ فلا يقربنّ مسجدنا؛ فإنّ الملائكة تتأذى ممَّا يتأذى منه بنو آدم»(8).
فإذا كانت أذية المصلِّين بالرائحة لا تجوز حتى لو حضروا متأخرين، فكيف بحرمانهم من أماكن فاضلة بغير حقّ وقد حضروا إليها مبكِّرين؟
وبكل حال؛ فلقد أكثرَ أهل العلم ـ رحمهم الله تعالى ـ الكلام عن منع حجز الأماكن، وشدّدوا في الإنكار على فاعل ذلك، وبيَّنوا أنّ ذلك العمل لا يحلّ ولا يجوز، وأنه مخالف لما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأنّ من زعم أنه يدرك فضيلة التقدّم وفضيلة المكان الفاضل بتحجره مكانًا فيه وهو متأخِّر فهو كاذب... إلى غير ذلك من بليغ إنكارهم على من فعل ذلك، وتحذيرهم من هذا المسلك المشين.
وإليك ـ أيها القارئ الكريم ـ بعض ما ذكره أهل العلم في مسألة حجز المكان في المسجد:
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
".. وأما ما يفعله كثيرٌ من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها قبل ذهابهم إلى المسجد، فهذا منهيٌّ عنه باتفاق المسلمين، بل محرَّم.
وهل تصحّ صلاته على ذلك المفروش؟ فيه قولان للعلماء؛ لأنه غصب بُقعةً في المسجد بفرش ذلك المفروش فيها، ومنعَ غيره من المصلِّين الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلِّي في ذلك المكان، ومن صلى في بقعة من المسجد مع منع غيره أن يُصلي فيها فهل هو كالصلاة في الأرض المغصوبة؟ على وجهين، وفي الصلاة في الأرض المغصوبة قولان للعلماء، وهذا مستند من كره الصلاة في المقاصير التي يمنع الصلاة فيها عموم الناس.
والمشروع في المسجد أنّ الناس يُتمُّون الصفّ الأول، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: « ألا تصفّون كما تصُفّ الملائكة عند ربِّها؟»، فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصُفّ الملائكة عند ربِّها؟ قال: « يُتمُّون الصفوف الأُوَل ويتراصُّون في الصفّ»(9).
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لو يعلم الناسُ ما في النِّداء والصفّ الأول ثم لم يجدوا إلّا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه...»(10).
والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدّم المفروش وتأخّر هو فقد خالف الشريعة من وجهين:
من جهة تأخّره وهو مأمورٌ بالتقدّم.
ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد ومنعه السابقين إلى المسجد أن يُصلّوا فيه وأن يُتمُّوا الصف الأول فالأول.
ثمَّ إنه يتخطى الناس إذا حضروا، وفي الحديث: « الذي يتخطى رقاب الناس يتخذ جسرًا إلى جهنم»(11).
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للرجل: « اجلس فقد آذيت»(12).
ثم إذا فرش هذا فهل لمن سبق إلى المسجد أن يرفع ذلك ويُصلِّي موضعه؟ فيه قولان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه تصرُّفٌ في ملك الغير بغير إذنه.
والثاني ـ وهو الصحيح: أنّ لغيره رفعه والصلاة مكانه؛ لأنّ هذا السابق يستحقّ الصلاة في ذلك الصفّ المتقدِّم، وهو مأمورٌ بذلك أيضًا، وهو لا يتمكن من فعل هذا المأمور واستيفاء هذا الحق إلّا برفع ذلك المفروش، وما لا يتمّ المأمور إلّا به فهو مأمورٌ به.
وأيضًا: فذلك المفروش وضعه هناك على وجه الغصب، وذلك منكر، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: « من رأى منكم منكرًا فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»(13).
لكن ينبغي أن يراعى في ذلك أن لا يؤول إلى منكر أعظم منه»(14).
* وقال ابن الحاج في كتابه « المدخل»:
"قال صلى الله عليه وسلم: « من غصب شبرًا من أرض طوّقه الله يوم القيامة إلى سبع أرضين»(15). أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وذلك الموضع الذي أمسكه بسبب قماشه وسجادته ليس للمسلمين به حاجة في الغالب إلّا في وقت الصلاة، وهو في وقت الصلاة غاصب له فيقع في هذا الوعيد بسبب قماشه وسجادته وزيه، فإن بعث سجادته إلى المسجد في أول الوقت أو قبله ففرشت له هناك وقعد هو إلى أن يمتلئ المسجد بالناس، ثم يأتي فيتخطى رقابهم فيقع في محذورات جملة، منها: غصبه لذلك الموضع الذي عملت السجادة فيه؛ لأنه ليس له أن يحجره وليس لأحد فيه إلا موضع صلاته، ومن سبق كان أولى، ولا نعلم أحدًا يقول بأن السبق للسجادات! وإنما هو لبني آدم، فيقع في الغصب أولًا: كونه منع ذلك الموضع ممن سبقه، فإذا جاء كان غاصبًا لما زاد على موضع صلاته بل غاصبًا للموضع كلِّه؛ لأنه لما أن سبقه غيره كان أحق بذلك الموضع منه، فيكون غيره هو المقدّم ويتأخر هو، فلما أن تقدّم على من سبقه كان غاصبًا.
ومنها: تخطِّيه لرقاب المسلمين حين إتيانه للسجادة، وقد نصّ صلى الله عليه وسلم على فاعل ذلك أنه مؤذٍ ونهى عنه فقال صلى الله عليه وسلم للذي دخل يتخطى رقاب الناس: « اجلس فقد آذيت»(16)، فنهاه وأخبر بأنّ فاعل ذلك مؤذٍ، وقد ورد: « كلّ مؤذٍ في النار»(17)، فيقع في هذا الوعيد والعياذ بالله تعالى، فإن زاد على ذلك ما يفعله بعض الناس أيضًا من نصب بساط كبيرٍ في المسجد لكي يصلي عليه هو وبعض خدمه وحشمه، ثم يبسط على البساط هذه السجادة فيمسك في المسجد مواضع كثيرة غاصبًا لها في كل ما تقدّم ذكره مع ما ينضاف إلى ذلك من الخيلاء"(18).
* وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
"اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ التحجّر في المساجد ووضع العصا والإنسان متأخِّر في بيته أو سوقه عن الحضور لا يحلّ ولا يجوز؛ لأنّ ذلك مخالفٌ للشرع ومخالفٌ لما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، فإنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حثّ الناس على التقدُّم للمساجد والقرب من الإمام بأنفسهم، وحثّ على الصفّ الأول، وقال: « لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ـ يعني من الأجر العظيم ـ ثم لم يجدوا إلّا أن يستهموا عليه لاستهموا»(19). ولا يحصل هذا الامتثال وهذا الأجر العظيم إلّا لمن تقدّم وسبق بنفسه، وأمّا من وضع عصاه ونحوه وتأخّر عن الحضور فإنه مخالفٌ لما حثّ عليه الشارع، غير ممتثل لأمره، فمن زعم أنه يدرك فضيلة التقدّم وفضيلة المكان الفاضل بتحجُّره مكانًا فيه وهو متأخّر فهو كاذبٌ، بل من فعل هذا فاته الأجر، وحصل له الإثم والوزر.
ومن مفاسد ذلك: أنه يعتقد أنه إذا تحجَّر مكانًا فاضلًا في أول الصفّ، أو في المكان الفاضل أنه يحصل له فضيلة التقدّم، وهذا اعتقادٌ فاسدٌ؛ فإنّ الفضيلة لا تكون إلّا للسابق بنفسه، وأمّا المتحجِّر للمكان الفاضل المتأخِّر عن الحضور فلا يدرك شيئًا من الفضيلة، فإنّ الفضل لا يحصل إلّا للسابق بنفسه، لا لسبق عصاه، فلو كان في ذلك خيرٌ لكان أولى الناس به الصحابة رضي الله عنهم، وقد نزّههم الله عن هذا الفعل القبيح، كما نزّههم عن كل قبيح، فلو علم المتحجِّر أنه آثمٌ، وأنّ صلاته في مؤخّر المسجد أفضل له وأسلم له من الإثم
لم يتجرَّأ على هذا، ولأبعد عنه غاية البُعد، وكيف يكون مأجورًا بفعل محرَّم لا يجوز؟!
ومن مفاسد ذلك: أنّ المساجد لله، والناس فيها سواء، وليس لأحدٍ فيها حقّ إلّا إذا تقدّم بنفسه، فإذا سبقه غيرُه فهو أحقّ منه، فإذا تحجَّر شيئًا لغيره فيه حقّ كان آثمًا عاصيًا لله، وكان ظالمًا لصاحب الحقّ، وليس الحق فيها لواحد بل جميع من جاء قبله له حقٌّ في مكانه، فيكون قد ظلم خلقًا كثيرًا، ولو قدّرنا أنّ إنسانًا جاء والصف الأول قد تحجَّره المتحجِّرون بغير حقّ فصف في الصفوف المتأخِّرة كان أفضل منهم وأعظم أجرًا، وأسلم من الإثم، والله يعلم من نيته أنه لو وجدها خاليةً لصلى فيها، فهو الذي حصل فضلها وهم حصلوا الوزر وفاتهم الأجر.
ومن مفاسد ذلك: أنه يدعوه إلى تخطِّي رقاب الناس وإيذائهم، وقد نهى الشارع عن ذلك، فيجمع بين التحجُّر والتأخّر والتخطِّي، فيكون فاعلًا للنهي من وجوه متعدِّدة.
ومنها: أنه إذا وضع عصاه أوجب له الكسل والتأخّر عن الحضور؛ لأنه إذا عرف أنه يجد مكانًا في مقدّم المسجد ولو تأخّر برد قلبه، وكسل عن التقدّم، ففاته خيرٌ كثير وحصل له إثمٌ كبير.
ومن المفاسد: أنه يحدث الشحناء والعداوة والخصومة في بيوت الله التي لم تُبن إلّا لذكر الله وعبادته.
ومن المفاسد: أنّ صلاة المتحجِّر ناقصة؛ لأنّ المعاصي إذا لم تبطل الأعمال تنقصها، ومن العلماء من يرى أنّ صلاة المتحجِّر بغير حقّ غير صحيحة، كالمصلِّي في مكان غصب لا تصحّ صلاته؛ لأنه غصبه وظلم غيره.
ومن مفاسد ذلك: أنّ الذي يعتاد التحجُّر مصرٌّ على معصية الله؛ لأنه فاعلٌ لها، جازمٌ على معاودتها، والإصرار على المعاصي يُنافي الإيمان. قال تعالى: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون﴾ (20). والصغائر تكون كبائر مع الإصرار عليها، ومن العجب أنّ أكثر من يفعل ذلك أناسٌ لهم رغبةٌ في الخير، ولعله زال عنهم استقباح هذا الأمر لمداومتهم عليه واقتداء بعضهم ببعض.
والرغبة في الخير لا تكون بالتقرُّب إلى الله بفعل محرَّم، وإنما الراغب في الخير من أبعد عن معاصي الله، وعن ظلم الناس في حقوقهم؛ فإنه
لا يتقرَّب إلى الله إلّا بطاعته، وأعظم من ذلك أن يتحجَّر لنفسه ولغيره، فيجمع عدّة مآثم، وشرّ الناس من ظلم الناس للناس، فيشترك الحامي والمحمى له في الإثم، فكيف يرضى المؤمن الموفق الذي في قلبه حياةٌ أن يفعل أمرًا هذه مفاسده ومضارُّه؟!
فالواجب على كلِّ من يفعل ذلك أن يتوب إلى الله، ويعزم على أن لا يعود، فإنّ من علم أنّ ذلك لا يجوز ثمَّ أصرَّ على هذا الذنب فهو متهاونٌ بحرمات الله، متجرِّئ على معاصي الله، يخشى أن يكون ممَّن يُحبُّون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا رياءً وسمعةً، يحبّ أن يحمد على صلاته في الصفِّ الأول، والمكان الفاضل، وهو آثمٌ ظالمٌ لأهل المسجد، غير محصِّل للفضيلة، ولكنه مصرٌّ على هذه الخصلة الذميمة الرذيلة، ونعتقد أنّ المؤمن الحريص على دينه إذا علم أنّ هذا محرَّم وعلم ما فيه من المفاسد والمضارّ وتنقيص صلاته
أو فسادها فإنه لا يقدم عليه، ولا يفعله؛ لأنه ليس له في ذلك مصلحةٌ في دينه ولا دُنياه، بل ذلك مضرَّةٌ محضة عليه، فالموفق يستعين الله على تركه، والعزم على أن لا يعود إليه، ويستغفر الله ممّا صدر منه، فإنّ الله غفورٌ رحيم. قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ (21).
ونسأل الله تعالى أن يحفظنا وإخواننا المسلمين من معاصيه، وأن يعفو عنا وعنهم ما سلف منها، إنه جوادٌ كريم.
وأمّا من يتقدّم إلى المسجد وفي نيته انتظار الصلاة، ثم يعرض له عارضٌ ـ مثل حاجته إلى الوضوء أو نحوه، ثم يعود ـ فلا حرج عليه، وهو أحقّ بمكانه، ولا يلحقه ذمٌّ، كذلك من كان في المسجد ووضع عصاه ونحوه ليصلي أو يقرأ في محلّ آخر في المسجد، فلا حرج عليه، بشرط أن
لا يتخطى رقاب الناس ولا يؤذيهم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وسلم"(22).
* وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى:
"هذا لا يجوز؛ لأنّ المساجد لله سبحانه، والسابق أحق من المتأخِّر، والسبق والتقدم إلى المسجد يكون بالبدن لا بالفراش والوطاء، فمنع الناس والحالة هذه لا يجوز، بل هو ظلم وغصبٌ لتلك البقعة من المسجد بدون حق.
عن عائشة أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: « من ظلم قيد شبر من الأرض طُوقَ به سبع أرضين يوم القيامة»(23).
وأيضًا: فعمارة المساجد بطاعة الله فيها من الذِّكر والقراءة والصلاة كما في حديث أبي سعيد: « إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان»، ثم قرأ:﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِر﴾ (24) الآية. رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن غريب(25).
ومتحجر تلك البقعة مانع لتلك العمارة المعنوية المطلوبة شرعًا والمرغوب فيها، ولا يبعد دخوله تحت قوله سبحانه: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾الآية(26).
ثمَّ إنّ واضع ذلك الوطاء والفراش ونحوه قد يحمله ذلك على التأني والتأخر عن إتيان المسجد في أول الوقت، ويفوِّت على نفسه بسبب ذلك خيرًا كثيرًا، وقد يأتي متأخراً ويتخطى رقاب الناس، وهذا حرام كما في الحديث: أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له: « اجلس فقد آذيت»(27).
ولم يكن من عادة السَّلف الصالح وضع تلك الفرش وتحجر المساجد، بل أنكروا ذلك وعدّوه بدعة في الدين، وكل بدعة ضلالة، كما يروى أنّ عبدالرحمن بن مهدي فرش مصلاه في مسجد الرَّسول صلى الله عليه وسلم فأمر بحبسه وقال: أما علمت أنّ هذا في مسجدنا بدعة؟
فإذا علمت ما ذكر فلا شكّ أن فعل ذلك في المسجد الحرام أعظم تحريمًا وأشدّ منعًا؛ لعظم حرمة ذلك المسجد، وقد صرحت الأدلة أن المعاصي في الأيام المعظمة والأمكنة المعظمة تغلظ معصيتها وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان، قال الله سبحانه: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم﴾ (28)"(29).
* وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز:
"المسجد لمن سبق، فلا يجوز لأحد أن يحجز مكانًا في المسجد، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: « لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلّا أن يستهموا عليه لاستهموا»(30) أي: لاقترعوا، فحجزه أمرٌ لا يجوز، وغصب للمكان، ولا حقّ لمن غصبه، فالسابق أولى منه وأحقّ به حتى يتقدّم الناس إلى الصلاة بأنفسهم"(31).
* وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ المفتي العام ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية بعدم جواز حجز الأماكن في الصفوف الأولى لأشخاص يأتون متأخِّرين للصلاة في المسجد الحرام أو المسجد النبوي،
أو لا يدخلون المسجد إلّا عند الإقامة، مشيرًا إلى أنّ الدافعين للمال من أجل الحجز لهم آثمون، والحاجزون آثمون، ومن سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلمٌ فهو أحقّ به.
* وقال سماحته ردًّا على سؤال حول ظاهرة حجز الأماكن والصفوف المتقدِّمة في الحرمين الشريفين:
"هؤلاء الذين يحجزون الأماكن في الصف الأول ويدفعون مبالغ مالية مقابل الحجز لهم في الصف الأول سعر معيَّن، والصف الثاني مبلغ كذا، يجلس في المكان وإذا جاء صاحبه قام عنه، هذا الذي يدفع المبلغ ليُحجز له لا يحضر للصلاة إلّا عند إقامة الصلاة ويقول: إنّه في الروضة وخلف الإمام بيني وبين الإمام صف واحد وأنا لا أصلي إلّا في الحرم خلف الإمام! أقول: ليعلم هذا أن ليس له من الأجر إلّا بعد مجيئه المسجد، ورُبَّ من كان في المصابيح أو الدور الأعلى أسبق منه عملًا بتقدّمه، ولهذا من أتى المسجد تصلي عليه الملائكة، فالذي لا يأتي إلّا مع الإقامة أو يوم الجمعة لا يأتي إلا عند دخول الخطيب تطوي الملائكة الصحف وتستمع الذِّكر".
وقال سماحته أيضًا:
"لا يجوز لهؤلاء حجز الأماكن، ولا يجوز لأيِّ مسلم أن يدفع مبلغًا ماليًّا لمن يحجز عنه، التقدّم ليس بالمكان، التقدّم بالإتيان مبكِّرًا، فمن أتى مبكِّرًا ولو في آخر الصفوف أفضل ممَّن لم يأت إلا متأخِّرًا ولو كان في المقدّمة"(32).
صيانة المسجد ونظافته
إن مما يجب الاهتمام به نظافة المسجد لأنها بيوت الله عز وجل فعن عائشة قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب
و قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: « عرضت علي أجور أمتي، حتى القَذاةُ يخرجها الرجل من المسجد» والقذاة: الواحدة من التبن والتراب وغير ذلك
وقد أمر عليه الصلاة والسلام أن ينظر المرء إلى نعله قبل دخوله المسجد لئلا يقع في المسجد مما تتأذى النفس منه أو تؤذي المصلين لحديث: « إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى، فليمسحه، وليصل فيهما»
وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إمراة تنظف المسجد فماتت ودفنت ليلا فقال عليه الصلاة والسلام « فَهَلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ فَقَالُوا إِنَّهُ كَانَ لَيْلًا قَالَ فَدُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا قَالَ فَأَتَى الْقَبْرَ فَصَلَّى عَلَيْهَا»
وكنس المساجد وإزالة الأذى عنها فعل شريف، لا يأنف منه من يعلم آداب الشريعة، وخصوصا المساجد الفاضلة، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « رأى نخامة في قبلة المسجد فحكها بيده»
(2)« قرة عين العابد» (ص19-20).
(6) أخرجه ابن ماجه برقم (2340، 2341) عن عُبادة بن الصامت وابن عباس.
(8) أخرجه مسلم برقم (564) [ شرح النووي 5/52] عن جابر.
(9) أخرجه مسلم برقم (430) [ شرح النووي 4/373] عن جابر بن سمرة.
(12) أخرجه النسائي برقم (1399) عن عبدالله بن بسر، وابن ماجه برقم (1115) عن جابر بن عبدالله.
(13) أخرجه مسلم برقم (49) [ شرح النووي 2/211] عن أبي سعيد الخدري.
(14) « مجموع فتاوى شيخ الإسلام» (22/189).
(19) متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة. وتقدّم تخريجه (ص22).
(22) « فتاوى الشيخ عبدالرحمن السعدي» (ص182-186).
(23) أخرجه البخاري، وتقدَّم تخريج ألفاظه (ص27-28).
(29) « فتاوى ابن إبراهيم» (3/38-40).
(30) متفق عليه، وتقدّم تخريجه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز شيخ الاسلام ابن تيمية
تنفيذ مؤسسة المفهرس لتقنية المعلومات